حديث المدينة .. عثمان ميرغني .. السودان.. الرفض بالهوية

حديث المدينة .. عثمان ميرغني ..
السودان.. الرفض بالهوية

خلال الحرب الأهلية اللبنانية، انتشر مصطلح ”القتل بالهوية“؛ كانت المليشيات الطائفية تقيم الحواجز بحسب مناطق نفوذها، وتفتش العابرين، فإذا ظهر من البطاقة الشخصية أنه ينتمي لطائفة أخرى غير التي يمر بحاجز التفتيش فيها، فإنه يُقتل غالباً رمياً بالرصاص وفوراً.

وفي العراق خلال الحرب الطائفية، استنسخت التجربة اللبنانية مع تطويرها، فأصبح اسم الشخص كافياً لتحديد وتهديد هويته، فإما إلقاء التحية عليه أو إلقاء الرصاصة في قلبه.. مثلاً، إذا كان الاسم ”علي“ وكان عابراً بحاجز لمليشيا سُنية، فقد يكون في عداد الأموات بلا حاجة لاستنطاقه، مثلما يحدث إذا كان الاسم ”معاوية“ ومّر بحاجز شيعي.

في السودان الآن تظهر الصورة ذاتها، في مضمار مختلف.

العيش في غيمة فطر رجل بدين
في مدح الكسل.. نبوءة بيرتراند راسل التي لم تتحقق
في ظل ازدهار سوق المبادرات التي يشهدها السودان حالياً، وحيث إن وسائط التواصل الاجتماعي سهّلت وأتاحت الفرصة لكل من يأنس في نفسه المبادرة أن يعلنها فوق رؤوس الأشهاد، فقد انتقلت فكرة ”القتل بالهوية“ إلى السودان ليصبح ”الرفض بالهوية“ للمبادرات.

قبل أيام ظهرت فوق سماء المبادرات السودانية، مبادرة حملت بطاقة صاحبها، ”الشيخ الطيب الجِد“، رغم أن اسمها الرسمي ”مبادرة نداء أهل السودان للتوافق الوطني“ لكن في البورصة، سوق الأوراق السياسية لا يحتمل العناوين الطويلة ويفضل أن يختصرها باسم صاحبها.

في الحال، ومباشرة بعد دق جرس البداية في صالة التداول السياسي، انقسم المتداولون لقسمين مع وضد.. ليس مع أو ضد المبادرة، بل مع وضد الشيخ الجد..

الذين هُم مع الشيخ الجد، نشروا في الوسائط سيرته الذاتية أنه سليل دوحة صوفية معروفة، أنارت دروب العلم وشاركت في معارك تحرير السودان في القرن التاسع عشر مع الإمام محمد أحمد المهدي، وحَفظ القرآن في الصبا الباكر وعبر مراحل التعليم حتى جامعة الخرطوم ثم ارتقى سلم القضاء السوداني حتى المحكمة العليا وتقاعد شيخاً لواحدة من أشهر الطرق الصوفية وفي مدينة منارة تزدهي بالقرآن.

الذين هُم ضِد، حفروا في الأرشيف واستخرجوا صوراً للشيخ الطيب الجِد تثبت أنه كان عوناً للنظام البائد وأنه يحمل في جيناته تعاطفاً أو أكثر معه حتى اليوم.

وتدور معركة حامية الوطيس بين مجموعتي المع والضد وصلت أحياناً إلى الإساءة الشخصية المباشرة للشيخ الطيب الجِد وطالت حتى عمره الكبير واعتبرته وصمة، فالقضية هنا ”الهوية“ لا الفكرة.

وفي كل مرة أشاهد في الفضائيات مناظرة بين سياسيين من المع والضد يخامرني السؤال الشهير في فيلم ”النمر والأنثى“ الذي وجهه الضابط الكبير لضابط مكافحة المخدرات الذي أدى دوره الفنان عادل إمام.. وافق الضابط الكبير بصعوبة على استصدار إذن تفتيش لمزرعة السياسي الكبير الخطير بعد إلحاح الضابط -عادل إمام- لاشتباهه بتورط السياسي في بيع المخدرات.

وبعد العملية وصل الضابط الكبير للموقع فسأل عادل إمام (فين البدرة؟)، رد عليه (قبضنا في المزرعة عُملة أجنبية) فيقول الضابط الكبير بمنتهى الغضب (فين البدرة يا حضرة الضابط؟)، ويرد عادل إمام (وجدنا فتاة مختطفة في المزرعة) فيضغط الضابط الكبير على أسنانه بقوة ويسأله (فين البدرة يا حضرة الضابط)؟؟؟

كلما تحدث سياسي في الفضائيات أجدني أسأل، (فين المبادرة؟)، لأن ما أسمعه حتى على مستوى كبار الساسة هو حديث عن صاحب المبادرة، لا المبادرة.

لكن في المقابل؛ بعض المبادرات تأتي أصلاً من روح ”الهوية“ السياسية أو الفكرية، فالذي اقترحها شخص اعتباري أو طبيعي يهدف منها استثماراً لا حل الأزمة، فينشأ الفعل المضاد الذي يحاول سد الطريق على حامل بطاقة المبادرة.

مبادرة الشيخ الطيب الجد جاءت في فراغ توقف المفاوضات بين الفرقاء السياسيين المدنيين والعسكريين، فبعد خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 4 يوليو 2022 قرر الجيش الخروج من الحكم والعمل السياسي لكنه اشترط توافق المدنيين على حكومة تنفيذية تتسلم الحكم.

لم يستطع المدنيون الاتفاق على حكومة ولا على وثيقة دستورية ولا حتى ترتيبات تسليم وتسلم مع المكون العسكري، وحتى الآلية الثلاثية التي تتكون من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد التي كانت تباشر وساطة بين الأطراف مدعومة دوليا، توقفت تماماً، بينما استمر الشباب في الحراك الجماهيري بشوارع العاصمة والولايات رغم كلفته الدموية الباهظة.

في مثل هذا المشهد ليس حكيماً رفض وتجريم أية مبادرة بـ“الهوية“ مهما كانت محاطة فعلاً بالشبهات السياسية، والأجدر النظر مباشرة في بنود المبادرة وتلمس الرشاد من الضلال فيها.

والذي يثير الدهشة حقاً، أن المبادرات على كثرتها تكاد تحمل مدلولات واحدة، ليس لتقارب فكر ونوايا من صاغوها بل للإمعان في التعميم وتجنب الخطاب المباشر الذي يضع النقاط فوق الحروف بلا لبس.

وأضرب مثالاً لذلك بموقفين متعارضين شهدتهما الساحة السودانية مؤخراً، أولهما مبادرة الشيخ الطيب الجد نفسها، والثاني مبادرة ورشة عمل نقابة المحامين التي دعيت لها الأطراف السياسية السودانية للبحث في صياغة مشروع ”الإطار الدستوري“ الذي يحكم ما تبقى من الفترة الانتقالية.

خرجت ورشة نقابة المحامين ببنود دستورية لإدراجها في الوثيقة التي تحكم الفترة الانتقالية. غالبية البنود عامة لا يمكن لأحد أن يختلف عليها، مثلاً:

البند رقم ”2“ في القسم أولاً (إقامة سلطة وحكومة مدنية ديموقراطية كاملة).

البند رقم ”5“ (السودان دولة ديموقراطية فيدرالية لا مركزية السيادة فيها للشعب وتمارس من خلال مؤسسات الحكم الانتقالي).

البند ”10“ الالتزام بالفصل بين السلطات وسيادة حكم القانون.

تسالي الحروب الأهلية
حتى لا يقوض الانقلابيون الهدنة في اليمن
على ما في هذه البنود من وجاهة، لكنها ليست موضع الخلاف بين القوى المدنية، ولن تتميز مبادرة عن أخرى بمثل هذا المتفق عليه بالضرورة، مما يجعل المبادرات أقرب إلى تعبير عن ”هوية“ تفترض من الجهات المقابلة أن تشهر ضدها سيف ”الرفض بالهوية“.

مبادرة الشيخ الطيب الجد هي الأخرى بعناوين عامة لا تفصل في المختلف فيه، بل تؤكد على المتفق عليه، وليس فيها جديد يستحق رفضه إلا إذا كان ”الرفض بالهوية“.

مقالات ذات صلة