عثمان ميرغني يكتب .. فن الحياة بـ(المقلوب)

عثمان ميرغني يكتب: فن الحياة بـ(المقلوب)

سعر اللاعب (ميسي) يصبح ألف دولار فقط لا غير.. لو امتد بصر الإنسان إلى ما وراء حجب الغيب..
لو علم الجمهور بالغيب.. فسيعرف نتيجة أية مباراة قبل أن تبدأ.. وبالطبع جمهور الفريق المهزوم سيوفر ثمن تذكرة الدخول.. ولأن المباراة ستكون بجمهور من اتجاه واحد فسيستسخر جمهور الفريق الفائز تكبد مشاق الترحال إلى الملعب.. فيذبل الإيراد المالي للمباراة.. فتفتقر فرق كرة القدم.. ولن تبذل المال في أي لاعب – حتى ولو كان حامل الكرة الذهبية- فتنهار بورصة اللاعبين.. كل هذا يحدث فقط إذا انشق الغيب وبان ما وراءه.
ولأن الله أبقى الغيب غيباً.. ينعم الناس بلذة المجهول.. متعة ولوعة طعم حياة الترقب.
ولكن؛ ليس كل الغيب غيباً..
فبعض الغيب معلوم بدرجة اليقين.. مثلاً..
مراحل تطور الإنسان من المهد إلى اللحد.. كل إنسان يدرك تماماً (خارطة الطريق) المحتوم..

وعلى رأي شاعرنا الهادي آدم في رائعته (أغداً القاك) التي تغنت بها أم كلثوم :
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا..
قوة اليقين بنضارة المستقبل جعلت الحاضر أحلى..
(قد يكون الغيب حلواً إنما الحاضر أحلى..)
أحلى بطعم الإحساس بالغيب القادم..

في قصة سيدنا سليمان يقول الله تعالى:
(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) سورة سبا الآية 14
حسرة الجن على الحاضر كانت نتاج إدراكهم أنهم لو يعلمون الغيب (ما لبثوا في العذاب المهين).. لأنهم ظلوا يعملون لعام كامل وهم يظنون أن سيدنا سليمان لا يزال حياً يمارس صلاحياته.

بعبارة أخرى.. معرفة النتيجة مسبقاً (الغيب) تغير السلوك الحاضر.. فالذي يدرك حتماً النتيجة يغير سلوكه بما يتناسب مع النتيجة (المستقبل)..

يريد القرءان أن يعلمنا الصبر على وعورة حاضر المبادئ طالما تقونا إلى الغايات الأسمى.. فالحق في النهاية هو الذي يسود.. فإذا كانت النتيجة معلومة لنا سلفاً فما الحسرة على الحاضر المخضب بالدموع والألم والنكد.

على المرء أن يتعلم كيف يعيش بـ(المقلوب)؛ في مشوار الحياة أنظر للغايات النبيلة التي حتماً تأتي في آخر المطاف.. ومنها أنظر إلى مسارك في الاتجاه المعاكس لترسم (خارطة الطريق).. من النهاية إلى البداية حيث أنت الآن.. تصرف على هدى معرفتك بالنهاية (لو كانوا يعلمون الغيب.. ما لبثوا في العذاب المهين)!
مثلاً..

إذا تعرضت لظلم بائن.. أعلم أنه مهما طال ظلام الليل.. فلابد أن ينتهي بضوء الفجر..
على قول الشاعر أبو القاسم الشابي :
لابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أن ينكسر
فما الحسرة على حاضر هو مجرد مشقة الصعود إلى أعلى الجبل.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ
فن الحياة بـ(المقلوب) يعلمنا أن متعة الحاضر في أن نعيشه بيقين المستقبل.. (وغداً للحاضر الزاهر نحيا .. ليس إلا).
لا تأس على شيء في هذه الحياة.. طالما أنت مدرك أن نور الفجر لا محالة آت.. آت.. آت.

مقالات ذات صلة