خواطر طبيب بقلم الدكتور علي بلدو الفن والجن .. سيكولوجيا الإبداع والفنانين..!!
خواطر طبيب
بقلم الدكتور علي بلدو
الفن والجن .. سيكولوجيا الإبداع والفنانين..!!
_____________
ارتبط الإبداع والعبقرية لدى الكثيرين بالجنون والمرض النفسي، وكثيراً ما يقول الناس إن هناك شعرة رفيعة للغاية ما بين العبقرية وجانبها الآخر المرهوب ذكره! ومن اللطيف أنه حتى الشخص العادي عندما يود وصف أشياء جميلة، فإنه قد يستخدم لفظ (حاجة مجنونة جن).. ويمتد هذا المفهوم ليشمل النواحي الإبداعية الأخرى من غناء ورسم وتلوين ومسرح وكتابة وشعر، وغيرها من ضروب الإبداع والفنون.
{ مضارب الفنون..
وقديماً جداً عرف الناس الفنون وتعاملوا معها وأحبوا النواحي الجمالية والطبيعية، كما نقلوا المرضى إلى شواطئ الأنهار للاستمتاع بالماء والخضرة والوجه الحسن، ونقلوا الموسيقى إلى داخل المعابد والأديرة كموسيقى دينية تساعد على التبتل والتعبد والزهد والسمو بالنفس الإنسانية من مدرج إلى مدرج، ومن مقام إلى مقام فتصفو النفوس، وترق كثافة الروح، فتصبح شفافة رائقة كأنها حبات من الكريستال اللامعة بنور الحقيقة ومصباح الطريقة، وهذا ما عناه “الفيتوري” في قوله الجميل:
في حضرة من أهوى عصفت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
مملوكك .. لكني سلطان العشاق
والناظر للطبيعة يجد أن الكون نفسه عبارة عن لوحة طبيعية، أبدع في رسمها الخالق، من ألوان زاهية وجميلة في الأشجار والعصافير والغابات، كما أن التضاريس من جبال وأنهار ومحيطات ورياح وبراكين وغيرها تتناغم في ما بينها، وكأنها تعزف في سيمفونية خالدة وباقية من صنع بديع السموات والأرض، ولا زلنا نسمعها كل يوم، ولكن لا ننتبه لها وفي ذلك جهل عظيم.
وليس ببعيد عن كل ذلك ما نراه في حال نزول المطر، من تكون لقوس قوس البديع بألوانه السبعة، وهي بمثابة حصة فنون مجانية وإلزامية للجميع، ودرس في التصميم الإيضاحي والتلوين والطبيعة الصامتة، التي أحياناً كثيرة تتكلم ورداً وزهراً وفلاً وأقحوانا:
أتاك الربيع الطلق يختال باسماً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
أوائل ورد كن بالأمس نوما
وإذا نظرنا للإنسان نفسه لوجدنا أثر الموسيقى والفن بادياً في تباين الألوان، ما بين أبيض العين وسوادها، وأحمر اللثة وسواد الشعر، واصفرار الأصابع وزرقة الصرة وغيرها من أجزاء الجسم، التي يصاحبها عدد من الأصوات المموسقة في حالات البكاء والضحك والشخير، وضربات القلب الإيقاعية، وصوت الأمعاء الخاوية التي يسميها الناس (جوع المصارين)، وهي تشابه لحد كبير (الدبل كروش) المعروف في العزف على الآلات الوترية! كما يلازم الفن والإحساس بالجمال الإنسان طيلة حياته من المهد للحد، ومن اختيار لأثاث بيته وشريكة وشريك الحياة وألوان الديكور وأنواع الزهور بالحديقة وغيرها. فالفن حقيقة هو التعبير عن ملكة التعبير والاندياح في فضاءات التموسق والتوضع والترفع.
{ بين “فان جوخ” و”بيتهوفن”
والفنان أياً كان يعبر دوماً عن نفسية مغايرة ومختلفة، ولديه أوضاعه الخاصة ونزعاته وميوله التي قد تشوبها الغرابة أحياناً، ولكنها في النهاية تمثل سيرة ذاتية لكل فنان، وتحكي عن آماله وطموحاته، وآلامه وإخفاقاته، وحبه وكرهه، وعاهاته وإعاقته وعبقريته على حد سواء. وخير مثال لذلك الفنان الفذ “فنسنت فان غوخ” الذي عاش في هولندا وكان فقيراً معوزاً تولى الصرف عليه أخوه “ثيو”، وكان “غوخ” يعاني من اكتئاب نفسي وسوداوية جعلته يخاف الظلام ويحب الضوء، لذا يكثر في لوحاته من اللون الأصفر الذي هو لون الشمس والضياء، ولديه لوحة معروفة ب (دوار الشمس)، التي عنت له طريقاً للهروب من الإحباط واليأس ولواعج الحزن ونيران الشك وعدم اليقين، لكنها في النهاية لم تجد فتيلاً، ليموت منتحراً بعد أن قطع بعض أجزاء جسده ويمضي فقيراً جائعاً ومفلساً.
والمتأمل لسيمفونيات “بيتهوفن” الموسيقار العظيم يجد أن بها صخباً ونبرات مرتفعة، والسر في ذلك يعود لإصابته بالصمم البسيط الذي انعكس على مردوده الموسيقي. كما أن الموسيقى هي مرآة للفكر والمذاهب المختلفة، ويتجلى هذا في موسيقى الدراويش وموسيقى الذكر، وقال “النابلسي” في ذلك:
هب لراعي الدير يفتح
نوره الشعشاع باهي
واسمع النغمة ترتح
واغتنم صوت الملاهي
وقتنا نقزة مزهر
وغناء العندليب
يا سقاة الراح قوموا
طلع الفجر علينا
عن سوى النغمة صوموا
أين من يفهم أينا
إنه صرف مطهر
عن قبيح ومعيب
كما انتشرت الطرق الصوفية بالنوبة والطار والجرس والإيقاع، وكذا حركات الجسم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم والدوران والطيران أحياناً في ما يحدث لدى مريدي الطريقة المولوية المنسوبة لسيدي “جلال الدين بن الرومي” رضي الله عنه وما نشاهده أيام الجمع في حمد النيل بأم درمان وما يحدث كل عام في أيام مولد سيد الخلق “صلى الله عليه وسلم”، وقد خلد ذلك الشاعر الراحل “محمد المهدي المجذوب” في قصيدته المعروفة (ليلة المولد):
وهنا حلقة شيخ يرجحن
يضرب النوبة ضرباً فتئن
وترن
ثم تنفض حنينا أو تجن
هذا يصور حالة الفناء الروحي والارتقاء بالنفس والشعور بقوة الوجد والسماع والانغماس في حلاوة الذكر حتى الوصول والفناء عن السوي، كما في إنشاد الطريقة السمانية وأبناء سيدي الشيخ الورع “قريب الله”:
إن ترد برهان كن على إذعان
وادخل الميدان والزم الذكرا
وقال “الجنيد” امام أهل التصوف:
إن طريقنا هذا.. ذكر مع إتباع.. ووجد مع سماع
فكان الفن والإبداع وحسن الخلق والأخلاق، والشعور بجمال الكون هو ركن خفي في عملية الاعتناق ورسوخ الإيمان والعبادة.