الجنائية الدولية وغياب الادلة لمحاكمة البشير .. الدكتور الدرديري محمد احمد
الجنائية الدولية وغياب الادلة لمحاكمة البشير
الدكتور الدرديري محمد احمد
أثار ما ادلى به المدعي العام للجنائية الدولية من انه لا ادلة لديه لمحاكمة الرئيس البشير وعبدالرحيم حسين، وماتبع ذلك من اخذ ورد مع الدائرة التمهيدية للمحكمة، اهتماما واسعا لدى الاوساط السودانية. اذ اعاد ذلك السجال طرح السؤال القديم المتجدد المتعلق بما اذا كانت الجنائية مسيسة ام لا. غير ان الجديد هذه المرة هو ان الاتهام بالتسييس ينطلق من دوائر كانت في الماضي ترى في تلك المحكمة ايقونة العدالة التي لا ريب فيها.
نفرد هذا المقال لبسط اطراف الجدال بين المدعي العام ومحكمته، ثم نبين كيف ان تسييس العدالة الجنائية الدولية مرتبط بالكيفية التي صممت بها تلك المحكمة وليس بتبرئة احد او ادانته. ونتطرق بين هذا وذاك للثقافة التي خلفتها منظمة “انقذوا دارفور” التي دعتنا ابتداءً للايمان بعدالة الجنائية الدولية، ثم اذا بناشطيها يرجوننا اليوم ان نكفر بها بعد ان ندّت منها كلمة واحدة تشير الى أن براءة البشير ومن معه احتمالٌ قائم قانونا.
في تقريره الذي اثار هذا الجدل، والذي قدم لمجلس الأمن في 17 يناير الماضي، قال كريم خان مدعي الجنائية الدولية في الفقرة 35 “ان البينة، وبشكل خاص تلك التي تتعلق بقضيتي الرئيس السابق السيد البشير وكذلك السيد (عبدالرحيم) حسين، ينبغي ان تقوّى”. وذكر في معرض التمهيد لهذا الحديث ان عدم تعاون حكومة السودان مع المحكمة هو السبب وهو الذي دفع قبلاً الى “القرار الذي اتخذته سلفي المدعي العام السابق فاطو بنسودا بتجميد التحقيقات الى حين توفر تعاون ذو معنى بين السودان والمجتمع الدولي” (الفقرة 34 من التقرير). طلبت الدائرة التمهيدية للمحكمة من المدعي العام توضيح هذا القول.
ذلك ان الدائرة التمهيدية هي التي وافقت على توجيه الاتهام واصدرت اوامر القبض تحت المادة 58(1) من نظام روما الأساسي. ولما كان ذلك يعني ان الدائرة التمهيدية قد اقتنعت “بوجود اسباب معقولة للاعتقاد بأن الشخص قد ارتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة”، فانها اعربت عن “قلقها العميق” حول ما ورد في التقرير المذكور وطلبت من المدعي العام توضيح خلفية هذا الحديث ومغزاه وما يترتب عليه.
رد المدعي العام، في نبرة لا تخلو من حدة، قائلا انه قدم تلك الافادة لمجلس الامن ومن ثم ليست للمحكمة ولاية عليها. واشار الى ان واجبه يملي عليه ان يتحدث للمجلس بصراحة عن تطورات الحالة الماثلة امامه. وقد استشهد في هذا الخصوص بافادة سلفه فاطو بنسودا (في تقريرها للمجلس بتاريخ 13 ديسمبر2016) بأنها ستجمد ملف دارفور وتوقف التحقيق فيه، التي لم تستفسرها الدائرة الابتدائية بصددها.
بالرغم من ذلك قدم المدعي العام التوضيح المطلوب. وقال انه فور توليه المنصب وجه باعادة تقييم البينة في كافة القضايا التي يتولاها مكتب الادعاء وعلى رأسها حالة دارفور وذلك للتقرير حول ما اذا كانت لاتزال هناك اسباب لتوجيه الاتهام للشخصين المذكورين وكذلك للسيد احمد هرون (الفقرة 9 من رد المدعي). وافاد المدعي العام ان مكتبه قد توصل الى انه لابد من توفر بينة اضافية اذا اريد جعل هذه القضايا جاهزة للمحاكمة trial-ready (الفقرة 10).
واضاف المدعي انه بسبب هذه الثغرات التي ظهرت اتخذ مكتبه عدة خطوات لتدارك الامر فخصص موارد اضافية لهذه القضايا وعين مستشارا خاصا ووفر موارد للترجمة العربية ويسعى لتأسيس مكتب حقلي دائم بالسودان (الفقرة 11).
واورد في الفقرة 12 من توضيحه، والتي يبدو انها هي التي اثارت حفيظة البعض، انه ملتزم بمراعاة المادة 54(1)(أ) من نظام روما الأساسي بدقة. وتلزم تلك المادة الادعاء بأن يحقق في ظروف الادانة وظروف البراءة على قدم المساواة.
بدلا من سرد هذا الموقف ـ الشارح لنفسه ـ كما هو، أضاف له بعض الناشطين بهارا وتوابل وكثيرا من “الشمارات”. فقالوا ان تقرير كريم خان لمجلس الامن الذي يحمل الرقم 34 اختفى من موقع الجنائية على شبكة الانترنت.
ثم قالوا ان رد المدعي العام على الدائرة التمهيدية لم يوضع في مكانه الصحيح من موقع المحكمة بل أُخفي في ركن قصي حتى لا يراه الناس! ثم اضافوا انه بالرغم من انه تقرر حجب اجزاء من ذلك التوضيح لكنها لم تحجب بسبب خطأ الكتروني فكشفت عن المستور! ثم اضافوا ان كريم خان “اتهم” فاطو بنسودا بتجميد قضية دارفور، وانه ابتدع وسائل ومعايير جديدة للتحقيق بخلاف ما كان معمولا به. اننا هنا لا نتحدث عن ما قاله شخص او اشخاص، فما شخصنة الامور بحل لمثل هذه القضايا الكبرى. لكنا نتحدث عن ثقافة سائدة وسط الكثيرين من المهتمين بمعالجة ازمة دارفور اوجدتها منظمة “انقذوا دارفور” Save Darfur واستشرت بين نشطائها ولا تزال مستحكمةً حتى اليوم. وكان عالِم السياسة الافريقي الاشهر محمود مامداني هو اول من نبه الى هذه الثقافة الخطرة في كتابه ذائع الصيت “دارفور: منقذون وناجون”.
فقال مامداني عن ناشطي “انقذوا دارفور” انهم “قوم يجمعون بين ازدراء المعرفة والالحاح على العمل. يُجيِّرون قضيةً بأكملها لمعارضة حكومة بلادهم، ويديرون آذانا صماء للخبراء زاعمين انهم يُعقِّدون القصة بالعديد من التفاصيل، مما يضيع القضية الاساسية”.
هذه هي العقلية التي دفعت البعض لاضافة التوابل للسجال اعلاه ازدراءً للمعرفة ثم الحاحا على العمل، كما قال مامداني. اذ ان كل هذه التقارير كانت ولا تزال متوفرة في موقع المحكمة لمن اراد مراجعتها. وما تقرر ان يُحجب منها عن العامة، والذي لا يتجاوز حاشيةً وبعض حاشية، فقد حُجب في وقته. وما رُؤي ان يبذل منها للكافة فلا يزال مبذولا في موقعه لكل راغب في الاطلاع.
بل بين المدعي العام في توضيحه ان ما قام به من مراجعة وتقييم للبينات انما تم وفقا للوائح وقواعد ادارية للمحكمة تم اقرارها منذ زمان بنسودا. فقال ان مبدأ اقتناع الادعاء العام بجهوزية القضية للمحكمة trial-ready قبل ان يمضي قدما في اجراءات التقاضي هو مبدأ منصوص عليه في الفقرة 23 من الخطة الاستراتيجية للادعاء للاعوام 2012-2013. كما اوضح ان مسألة تقييم البينات بوساطة فريق من مكتب الادعاء غير ذلك الذي يتولى القضية هي مسألة مقرة في ورقة ترتيب اولويات القضايا التي اعتمدت عام 2016 والمعلنة ايضا في موقع المحكمة.
وهكذا يتضح ان كل ما هناك هو ان نشطاء “انقذوا دارفور” لايزالون عازمين على ممارسة هوايتهم التي تحدث عنها مامداني منذ العام 2009. فكما صادروا قضية دارفور لمعارضة حكومة بلادهم حينها، فهاهم اليوم يستغلونها لمواجهة خصومهم الاسلاميين.
اما كون ان المحكمة الجنائية مسيسة بامتياز فهو امر لا يرتبط بادانتها للبشير او تبرأته.
وانما هو مسألة تتعلق بالكيفية التي صُممت بها تلك المحكمة ابتداءً. فقصة تسييس الجنائية تبدأ باعمال اللجنة التحضيرية لصياغة نظام روما الأساسي والصراع الذي دار داخلها بين موقفين غربيين، الاول هو موقف الولايات المتحدة والثاني هو موقف البلدان الغربية التي سمت نفسها مجموعة الدول ذات الميول المشتركة like-minded states والتي كانت تضم الدول الغربية التي لا تتمتع بعضوية دائمة بمجلس الامن وعلى رأسها المانيا وكندا وهولندا. كلا الموقفين كانا يهدفان لحماية مواطني الدول الغربية من المحاكمة لدى الجنائية، غير انهما يختلفان في الطريقة المفضية لذلك.
فبينما كانت الولايات المتحدة ترى ان السبيل المضمون لتحقيق هذه الغاية هو ألا ينعقد للجنائية الدولية اي اختصاص إلا عبر الاحالة من مجلس الامن، حيث تسيطر امريكا وحلفاؤها، فان دول المجموعة كانت ترغب في ابتداع مبدأ “التكاملية” الذي يعطي الحق للمدعي العام في فتح تحقيقاته باستقلالية عن مجلس الامن اذا ثبت له ان الدولة المختصة اصلا بنظر القضية غير راغبة او غير قادرة على اجراء التحقيق او المحاكمة.
وحيث ان الدول الغربية جميعا تُعتبر، بحكم الامر الواقع، قادرة وراغبة في اجراء المحاكمات فان هذا الترتيب يكفي لتحصين زعمائها ومواطنيها من المحاكمة لدى الجنائية دون حاجة لربط ولاية الجنائية بمجلس الامن. في خاتمة المطاف انتصر موقف مجموعة الدول ذات الميول المشتركة فأَدخلت في نظام روما المادة 17(1)(أ) التي تقول بالتكاملية.
وبالرغم من ان مجلس الامن لم يعد الجهة الوحيدة التي تحيل القضايا للمحكمة الجنائية كما كانت ترجو امريكا، فان امريكا نجحت في ان تُدخل لنظام روما المادة 13 (ب) التي منحت المجلس السلطة لإحالة ما يرى من حالات إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما حدث في دارفور.
كما ادرجت في النظام الأساسي المادة 16 التي منحت المجلس سلطة إرجاء التحقيقات. وحيث أن مجلس الأمن هو الجهاز السياسي للامم المتحدة، وليس جهازها القضائي، فهو لا يبني قراراته بشأن الإحالات والإرجاءات على أسس قانونية. بل يتصرف وفقا لمعطيات السياسة الواقعية realpolitik اي كيفما يحلو للمسيطرين عليه.
ونضرب مثالا لذلك من واقع عشناه في العقد الماضي في دولتين قريبتين. ففي حين أن الأوضاع في كل من ليبيا وسوريا كانت مروعة على حد سواء، وصل عدد الخسائر في الأرواح في سوريا إلى 400 ألف بينما لم يتجاوز الرقم في ليبيا حوالي 25 ألفًا.
الا انه تمت إحالة الوضع في ليبيا للمحكمة بواسطة مجلس الأمن ولم تتم إحالة الوضع في سوريا. وما ذلك الا لأن سوريا كانت تتمتع بحماية الفيتو الروسي. بالطبع لا احد يجرؤ على ذكر اسرائيل وما قامت به في غزة عام 2014 ثم ما حدث العام الماضي. ولما اتضح ان مبدأ التكاملية يحمي القادة الاوربيين من المحاكمة امام الجنائية، الغى نظام روما مبدأ الحصانة السيادية لتجريد رجال الدولة غير الغربيين (خاصة القادة الافارقة وقادة جمهوريات الموز) من هذه الحماية الراسخة في القانون الدولي. هذا على الرغم من بقاء نظرائهم الغربيين مستمتعين بحصانة فعلية يوفرها لهم مبدأ التكاملية. ومن ثم اجيزت المادة 27 التي اسقطت الحصانة عن رؤساء الدول.
اذا كان هذا لا يكفي لكشف تسييس المحكمة الجنائية الدولية والتدليل على انها مجرد ألعوبة في يد المتنفذين في مجلس الامن، فلننظر من هم قضاتها وما هي خلفياتهم المهنية.
تنص المادة 36 (3) من نظام روما الأساسي على نوعين من المؤهلات المطلوبة لقضاة المحكمة الجنائية الدولية. وفي حين أن النوع الأول هو الكادر القضائي ذو الكفاءة في القانون الجنائي الدولي، فإن الفئة الثانية هم الأشخاص الذين لديهم “كفاءة ثابتة في مجالات القانون الدولي ذات الصلة”. هذه الفئة الثانية صارت الباب الخلفي لتعبئة المحكمة الجنائية الدولية بالدبلوماسيين.
فبموجبها أصبح فيليب كيرش، الدبلوماسي الكندي الذي كان رئيسا للجنة التحضيرية لنظام روما الاساسي، والذي شغل سابقًا منصب نائب الممثل الدائم لكندا لدى الأمم المتحدة وسفيرها في السويد، أول رئيس للمحكمة الجنائية الدولية.
اما هانز بيتر كول، الدبلوماسي الألماني الرئيسي في التفاوض نيابة عن الدول ذات الميول المشتركة، والذي عمل في بعثات بلاده في واشنطن وتل أبيب، فقد اصبح رئيسا للدائرة التمهيدية. وبهذه الصفة تولى سعادة السفير توجيه التهم واصدار اوامر القبض على الرئيس البشير وبقية المتهمين السودانيين.
ثم تمت لاحقا ترقيته إلى منصب نائب رئيس المحكمة الجنائية الدولية. وهكذا فان الثنائي الدبلوماسي الذي توطدت صلاته اثناء ابرام الصفقات الخلفية مع امريكا هو الذي تولى قيادة المحكمة الجنائية الدولية في مرحلتها التأسيسية. ولا يزال اتجاه تعيين الدبلوماسيين قضاةً مستمراً. فرئيسة المحكمة التي تلت كيرش، سيلفيا فرنانديز دي غورمندي، دبلوماسية خدمت بلدها كمديرة عامة لحقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأرجنتينية.
وكذلك فان القاضي، أو بالأحرى السفير، الفرنسي مارك بيرين دي بريشامبو كان هو الأمين العام لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وشغل قبل هذا المنصب المرموق منصبا دبلوماسيا في بعثة فرنسا في نيويورك وقبلها كان مستشارًا لوزير الخارجية الفرنسي كلود تشيسون. ونائبة رئيس المحكمة كونيكو أوزاكي دبلوماسية يابانية شغلت عدة مناصب في وزارة الخارجية في بلدها. بل ان القاضي انطوان كيسامبي عضو الدائرة التمهيدية الحالية التي استوضحت كريم خان عن تقريره المثير للجدل كان سفيرا لبلاده، الكونغو، لدى سويسرا ومبعوثها للامم المتحدة في جنيف. هذا النادي الدبلوماسي هو الهيئة التي تسمى المحكمة الجنائية الدولية، والتي اوهم ناشطو “انقذوا دارفور” الضحايا انها ستملأ دارفور عدلا كما مُلئت جورا.
بالنسبة لناشطي “انقذوا دارفور” فان انسان دارفور وضحايا الحرب فيها ليسوا إلا بيادق في لعبتهم ضد خصومهم الاسلاميين. فاذا كان عمر قمر الدين قد اعلن في نفخة كذّابة بانه هو الذي فرض العقوبات على السودان، فاننا الآن ننتظر من يعلن انه هو الذي غبّش على الرأي العام الدارفوري وحال دون الدخول في عملية للتعافي وجبر الضرر وفقا للتقاليد الدارفورية، ايام كانت قطر على استعداد لدفع المليارات تعويضا. الآن وبعد سبع عشرة سنة ضاعت من اعمار الضحايا واسرهم جريا وراء سراب الجنائية البلقع، وضاعت على دارفور وعلى التعافي الوطني في السودان، يعلن الناشطون ان الجنائية الدولية مسيسة! هكذا وبكل سهولة ودون ان يطرف لهم جفن!
الخرطوم 4 فبراير 2022