أزمة الشرق .. اختلال منهج، وضعف قرار
تأملات … جمال عنقرة
لم تكن هناك أية أسباب موضوعية للانفجار الأخير للأوضاع في شرق السودان، بعد ثورة ديسمبر المجيدة، ولقد كتبت أكثر من مقال قبل ذلك ذكرت فيها أن أزمة الشرق مصنوعة، وأن أطرافها، وكل أطراف الحكم شركاء في ذلك التأزيم، ونسبة لأهمية الشرق لكل أهل السودان، ولغير أهل السودان أيضا، ولأهميته الخاصة عندي، والتي لها أسباب كثيرة، أولها الروابط العديدة، والأواصر الحميمة التي تربط بيني وبين كثيرين من أهل الشرق ورموزه، وقادته، والتي ذكرت بعضا منها قبل ذلك، أوليت أزمة الشرق اهتماما خاصا، وعلاقاتي الطويلة الممتدة بشرق السودان وأهله، أتاحت لي معارف، وفتحت لي مداخل مهمة في هذا الملف، وفضلا عن علاقتنا الأسرية بشرق السودان التي فتح لنا بابها جدنا الأمير النور عنقرة عندما أرسله الخليفة عبدالله التعايشي لدعم حملة الأمير الزاكي طمل، ومعه الأمير حمدان أو عنجة، والأمير أحمد فضيل في الحبشة، فقاد معهم المعركة الفاصلة، وقتل ملك الحبشة منليك، ثم عاد وعسكر في القضارف (ديم النور) وتلك كانت آخر معارك النور عنقرة في المهدية، وفي حياته، إلى أن اختاره الله إلى جواره وهو في سريره عام 1924م، في بيته الأخير في حي (أبوروف) بأم درمان، ودفن في مقابر أحمد شرفي. وبعد ذلك تمددت وتعددت علاقاتي الخاصة بشرق السودان وأهله، ومن أهل الشرق الذين ربطتني بهم علاقات قوية، ال الناظر ترك، وال الناظر دقلل، والزعيم هاشم بامكار، وأخوانه وأهله في ديم عرب، وأشراف طوكر عمنا الشريف إبراهيم فكي، وابنه عبدالله (عنتر) وأخوانه وأهله وعشيرته، وأصهاره، وال الزعيم كباشي عيسي، والزعيم موسي حسين ضرار، وأستاذنا بابكر محمد أحمد من الحلنقة، وابنته زميلتنا توحيدة وأخوانها، وزوجها اللواء (م) جعفر بري، وكل أهل القضارف، وفي مقدمتهم أهلنا ال الأزرق، وال البدوي، وال الريفي وغيرهم، وكثيرون من أهل كسلا، من كل مكوناتها، ال السيوفي، وال داود، و (منقة كسلا) واهل الفن والرياضة ال حسين، إبراهيم وموسي وأهلهم، وغيرهم كثر.
وضعنا أزمة الشرق في أول أولويات مبادرة شيخنا، شيخ المشائخ الفارس أبو شنب، الشيخ الياقوت الشيخ محمد الشيخ مالك الشيخ الإمام، شيخ الطريقة السمانية الخلوتية، وأولتها لجنة السلم المجتمعي بالمبادرة اهتماما خاصا، وعقدت عدد من اللقاءات مع أطراف مسألة الشرق، مع الناظر ترك ومجموعة من قبائل البجا، ومع الناظر دقلل، ومجموعة من البني عامر والحباب، ثم قدمت اللجنة خارطة طرق لمسار الحل كان لصديقنا الحبيب الأستاذ عبد الله آدم خاطر السهم الأكبر في ذلك، ثم اجتهدنا بعد ذلك عبر مسارات عدة، كانت واحدة منهن بمبادرة من ابنة العم العزيزة منى أبو العزائم، وفتحنا أبواب أخري مع أخي الحبيب الشريف الهندي عز الدين، ولا تزال المساعي جارية.
ورغم أني تعودت ألا ألتفت إلى الوراء، وقديما قال أهلنا (كترة التلفت بوقع) ولكن هناك مسائل لا بد من الوقوف عندها، ونحن نتلمس طرق الحل، ولقد قلت لكل أطراف مسألة الشرق، إن من أكبر معوقات الحل أن كل الأطراف تستقوي بأطراف أخري علي بعضها، فبينما يستقوي البعض بالجبهة الثورية والحركات المسلحة، فإن آخرين يضغطون علي الحكومة لكسب الموقف، وما يزيد الطين بلة حالة الضعف المهين التي تتسم بها كل مكونات الحكومة إزاء أزمة الشرق، فلم تقو أية جهة حكومية علي اتخاذ قرار مناسب في الوقت المناسب، طوال مراحل الأزمة، وحتى لا يكون حديثنا نظريا، دعونا نورد بعض الأمثلة.
أول تأزيم حدث عند تصدي البعض لقيادة مسار الشرق في مفاوضات سلام جوبا، واعتراض البعض عليهم، وعلي المسار نفسه، ورغم تقديرنا للجهد الذي بذله الذين تصدوا لقيادة المسار، ورغم ما تحقق علي أيديهم من منجزات، لكن لا أحد منهم يستطيع أن يزعم أنه وحده يمثل الشرق، ومن اقرارهم بذلك، الاتفاق على مؤتمر لإستكمال مطلوبات المسار يشارك فيه بقية أهل الشرق، وكان متاحا أن يتم معالجة ذلك بتوافق بين قادة المسار، وبين قادة الشرق الآخرين، ولكن قادة المسار استقووا بالوسيط الجنوبي وحركات الكفاح المسلح، ووضعوا الحكومة أما ضغط وقف كل التفاوض، أو الإبقاء على المسار كما هو، فرضخت الحكومة، واستمر المسار، وزاد التباعد بين أهل الشرق، وازدادت النار اشتعالا، وفي المقابل راهن معارضو المسار علي الضغط الشعبي علي الحكومة، فازدادت الحكومة حيرة، وتيها.
أزمة والي كسلا كانت خطأ حكوميا مائة في المائة، فلم توفق الحرية والتغيير في اختيارها للوالي، فالوالي صالح عمار، لم يجد حتى المناصرين له دفوعا قوية عنه، وكانوا دائما ما يقولون أنه ليس خيارهم، ثم جاءت المعالجة بأسوأ من الاختيار الخاطئ الأول، فلم تكن إقالته وحده قرارا موفقا، فزادت الطين بلة، ووقف مجلس السيادة عاجزا عن الوفاء بأي عهد قطعه علي أحد، ثم جاءت لجنة الإدارة الأهلية التي كونها السيد نائب رئيس مجلس السيادة، وزادت الأزمة تعقيدا، فاللجنة ليس لها معرفة بجذور الأزمة، ولا بمداخل حلها، وهي – رغم احترامنا لأعضائها جميعا – لكنهم ليسوا أفضل تمثيل للمكون الأهلي في السودان، وأقولها صراحة، أنها لم تجد القبول الكافي الذي يمكنها من تقديم حلول ناجزة، وناجعة.
ويبقي الحل الأمثل والأقرب في أن يدرك كل أهل الشرق، أن مسار الحل لا بد أن يخرج منهم، وأنهم لا بد أن يقبل بعضهم بعضا، وأقول أني قد لمست ذلك عند كثيرين فاعلين في كل أطراف مسألة الشرق الأساسيين، وتبقي المشكلة الأولي محاصرة بعض أصحاب الأجندة الخاصة في كل الأطراف الذين يصطادون في المياه العكرة، ثم يجب علي الحكومة – وعلي مجلس السيادة تحديدا – أن يكون قدر التحدي، ويبعد عن المسكنات، ويتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، ولا يستجيب للضغوط والمزايدات، والمساومات، ولا حل بغير إشراك أهل الشرق جميعا، وأعتقد أن الفرصة لا تزال قائمة للتوافق علي مؤتمر يرضي طموحات أهل المسار، والمعترضين علي المسار، ويحقق أعظم مكتسبات لأهل شرق السودان، وهذا ما ينشده أهل المسار، والمعارضين للمسار علي حد سواء.