إحراق “الحقّانية”: الجريمة الرمزية التي استهدفت ذاكرة العدالة السودانية بقلم✍🏽: المهندس / خالد مصطفى الفزازى

فى مشهد يُدوّي بما يفوق أثر الرصاص ، احترق أحد أعرق رموز العدالة السودانية : مبنى السلطة القضائية فى الخرطوم .
هذا المبنى الذي لم يكن مجرد طوبٍ وحجارة ، بل كان ذاكرة وطن ، أرشيفًا قانونيًا ، ومدرسة لتاريخ السودان القانوني الممتد منذ ما قبل الاستقلال .
وقد جاءت هذه الجريمة ، بحسب المؤشرات والتحقيقات الأولية ، على يد مليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتياً ، فى فصل جديد من فصول تدمير الدولة السودانية ومؤسساتها السيادية .
إرث قضائي تم حرقه بعود ثقاب
المبنى الذي التهمته النيران ليس مكانًا عابرًا .
وُضع حجر أساسه فى العام 1904م ، وتم افتتاحه في 24 فبراير 1908م ، ليحمل من ذلك الحين اسم “الحقّانية” ؛ وهو الاسم الذي ارتبط تاريخيًا بالقضاء في العهد التركي ، ثم تطور لاحقًا ليصبح معلمًا قضائيًا مركزياً فى الدولة الحديثة .
فى داخله ، حفظت البلاد سجلات القضاء لأكثر من قرن ، تضم أحكامًا كتبها عمالقة فى الفكر القانوني والفقهي أمثال : محمد شاكر ، المراغي ، محمد هارون ، وقراعة .
كما ضم أرشيفًا ضخمًا من المكاتبات الرسمية والمراسلات القانونية التي ترسم تطور الفكر القضائي فى السودان .
*مركز إشعاع علمي وقانوني*
لم يكن المبنى مقرًا إداريًا فحسب ، بل كان بمثابة منارة للعلم ، حيث تحتوي مكتبته على عشرات الآلاف من الكتب القانونية والفقهية ، بعضها نادر وبعضها الآخر توثيقي لسجالات ومراجع لا تتوفر إلا فى هذا المكان .
هذه المكتبة العريقة يزيد عمرها عن 100 عام ، وشكلت مرجعية أساسية لكل العاملين فى الحقل القانوني فى البلاد .
*العدالة هدف مباشر للهدم*
لم يكن استهداف هذا المبنى مجرد صدفة فى سياق الحرب .
فالعدالة ، كمفهوم ومؤسسة ، كانت دومًا حاجزًا أمام الطغيان والفوضى ، ولذلك فإن حرق السلطة القضائية هو فى جوهره حرق لفكرة الدولة ، والقانون ، والمؤسسية .
إنها محاولة ممنهجة لقطع صلة البلاد بإرثها القانوني والسيادي ، لتصبح “الأرض محروقة” لا فقط عسكريًا بل مؤسساتيًا ورمزيًا أيضًا .
إن اختيار هذا الهدف بعناية ، وطريقة إحراقه ، تدل على وعي تام بما يمثله المبنى من رمزية ثقافية وتاريخية ، وهذا ما يرجح – فى نظر العديد من المراقبين – أن العملية كانت بتخطيط واختراق استخباراتي خارجي ، وبشكل خاص من أجهزة استخبارات إماراتية شاركت فى تقديم الدعم اللوجستي للمليشيا وتوجيه ضرباتها نحو مؤسسات الدولة السودانية .
*مسؤولية لا تسقط بالتقادم*
حرق مبنى السلطة القضائية ليس فعلاً عسكريًا عشوائيًا ، بل جريمة مكتملة الأركان ، ترقى إلى مستوى جرائم الحرب الموجهة ضد الإرث الثقافي والمؤسسات المدنية .
وهي جريمة لا تسقط بالتقادم ، ويجب أن تُوثق ضمن الملفات التي ستُعرض أمام المحاكم الدولية مستقبلاً .
*إنهم لا يحرقون المباني ، بل يحاولون محو الدولة*
فى المجمل ، لا يمكن قراءة هذا الحريق إلا بوصفه أحد أشكال الحرب الرمزية ضد السودان .
فاستهداف “الحقّانية” لم يكن معزولًا ، بل جاء فى سياق منهجي لاستهداف أرشيفات الدولة ، السجلات المدنية ، الجامعات ، المتاحف ، والمراكز البحثية .
أعداء السودان لا يكتفون بإسقاط الحاضر ، بل يريدون محو الذاكرة الجمعية ، ومسح هوية الدولة السودانية الحديثة بكل ما تمثله من قيم سيادة وعدالة وشرعية مؤسسات .