ياسر الفادني : مكة تنادي …والقلوب تلبي عشقا !!

سار الحجيج، وكأن الكون نفسه إستيقظ على لحنٍ من نور، يردد خلف البرعي: “سار سار الحجيج الليلة سار”، فتتفتق الأرواح عن شوق لا يُحدّ، وتتمايل القلوب كما تتمايل النخيل في نسيم الحجاز، هذه المدحة ليست مجرد كلمات، بل هي سفينة من نور، تشق بحار الشوق لتُبحر بنا إلى مكة، إلى طيبة، إلى حضرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم

عبدالرحيم البرعي، الراوي العارف، نسجها بمغزل الإلهام وبحروف وضاءة كأنها أنجم، في مدحة سافرت في الزمان والمكان، تمسّ قلب الحاج قبل أن يمسّ قدميه تراب المشاعر، كأن البرعي لم يكن يكتب، بل كان يسكب من روحه عسل المحبة، ومن قلبه نغماً يسجد بين يدي العشق النبوي

المادح كرم الدين محمد آدم بصوته الذي يخترق الحنايا، أدّى هذه المدحة بمقام يتأرجح بين الحجاز والرست، يعلو ويهبط كما يتنقل الحاج بين المشاعر المقدسة، فيها سلم موسيقي يتلوّى كالوجد، يبدأ خافتاً ثم يصعد رويداً رويداً حتى يبلغ سنام الشوق، ثم يهبط في حضن السكينة ، وقعُ الإيقاع يشبه خفقات قلب محب… نبضة بعد أخرى، شوقاً بعد شوق، إلى أن يُعلن القلب بصراحة: “لبّيك اللهم لبّيك”

في كل بيتٍ من هذه المدحة، تنفجر المعاني كما تنفجر عيون زمزم في قلب العطش. “راحوا لي طعن الإبار”، أي ذهبوا ليرتشفوا من نبع الرحمة، من معين لا ينضب، يتركون خلفهم الدنيا وما فيها، فليس الزرع إن بار هو الخسارة، بل من لم يزر تلك الرحاب هو الخاسر الأكبر

من جدة إلى المدينة، ثم إلى مكة، ثم إلى عرفات، تُرسم خارطة القرب من الله، ووجهة القلب نحو الحبيب. تزور المدحة الأماكن، ولكنها في الحقيقة تزور المشاعر، تحفر في القلب قبراً للغفلة، وتبني على ترابه قبة من نور العرفان

حين يقول: “في جبل عرفات جميع، صاحوا كالطفل الرضيع”، يكشف البرعي عن سرٍ دفين: أن الحاج لا يبلغ قمة الطهر إلا حين يعود كما ولدته أمه، لا في الثوب فقط، بل في النفس، في النظرة، في النداء، في الانكسار

المقام هنا ليس مقام سماع فقط، بل مقام سُكنى. تسمع المدحة فتقيم فيها، تسكنك، تستقر بين ضلوعك. من يسمع هذه المدحة لا يظل كما كان، فصوت كرم الدين حين يردد “حجه مبرور وهو بار”، يهزّ القلب هزاً، كأنه توقيع من السماء على بياض صفحة جديدة

وليس المقام مقام شعائر فحسب، بل هو مقام حب، حب المصطفى، ذاك الذي لم يكن نوراً فقط في التاريخ، بل لا يزال نوراً في عيون المحبين، كل بيت من المدحة يُضاء بذكراه، وكأن الحروف تنحني خشوعاً حين يُذكر اسمه ، حب لا يُشبه حباً، حب فيه ذلٌ وسُكرٌ وعزٌ وافتخار

أثر هذه المدحة في القلب؟ كمن يشرب من ماء زمزم بعد طول عطش، كمن يلمس الحجر الأسود بعد عمرٍ من الانتظار، كمن يضع جبينه على تراب طيبة ويقول: “ها قد عدت يا رسول الله”. هي ليست قصيدة، بل مشوار حج كامل، يُختصر في دقائق، وتُختصر فيه الحكاية كلها: من حنين إلى حبيب، من عشق إلى تطهير، من الدنيا إلى الله.

إني من منصتي أحس…. إحساسا عميقا وصادقا أن كل من نادى بهذه المدحة، وكل من سمعها، كأنما زار وكأنما ذاق، وكأنما وقف بين يدي المصطفى وبكى،
اللهم صلِّ على من به عرفنا الحب، وعرفنا الطريق، وعرفنا أن الشوق لا يُسكت إلا حين نُقال: حجٌ مبرور، وزيارة مقبولة، وذنب مغفور ، صلوا علي الحبيب.

مقالات ذات صلة