مشهد جديد .. عبدالسميع العمراني : تلاهون قيساسي !!! بلبل الهضبة الذي بكي مغردا في هوي عازة السودان.

نواصل في…
سلسلة مقالات حول شخصيات أثيوبية أحبها الشعب السوداني وكان لها تأثير في توطيد دعائم المودة بين الشعبين الشقيقين
تلاهون قيساسي !!!
بلبل الهضبة الذي بكي مغردا في هوي عازة السودان.
مع أواخر سبعينات القرن الماضي هرب المطرب الإثيوبي الشهير تيلاهون قيسيسي من أديس أبابا الي السودان ، بعد مضايقات ومطاردات من نظام الدرق الديكتاتوري ، وهو النظام الذي حارب الفنون والمسرح وأغلق الأندية وحظر الندوات الثقافية والفنية ، بل الغي كل ماهو جميل في إثيوبيا ، فخلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي تمت مطاردة تيلاهون قيسيسي بعد أن أعتبر نظام الدرق ان اغنيته الشهيرة ( التشا لكوم ) ومعناها بالعربية ماعدت أطيق هذا…، اعتبر النظام أن كلمات تلك الاغنية تحمل درجة عالية من التحريض للشعب للثورة علي النظام ، وبرغم من أن الأغنية كانت قد خرجت للوجود في بداية عقد الستينيات وذلك خلال العهد الأمبراطوري ، إذ كان نجم تيلاهون قد سطع منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. وخلال عهد الأمبراطور هيلاسيلاسي كانت الأغنية رائجة وكلماتها تتناول الأوضاع الاقتصادية الصعبة للاثيوبيين في ظل تدهور أوضاع حكومة الأمبراطور ، فكان ان تمت مطاردته وبعدها تم إدخاله السجن بسببها ، والاغرب من ذلك انه و عقب الاطاحة بالأمبراطور ووصول ضباط الدرق وانفراد الديكتاتور منقستو هيلا ماريام بالحكم ، أبدت السلطات الإثيوبية ضيقها وانزعاجها من ذات الأغنية ، وأعلنت القبض علي المغني تيلاهون ، فتمت ملاحقته ولكنه تمكن من الهروب الي السودان .
استقر تيلاهون قيسسيسي في ضاحية ابوحمامة بجنوب الخرطوم ، وقد تواصل مع اتحاد الفنانيين السودانيين معلنا رغبته في الانضمام للاتحاد ، وقد وجد تيلاهون الحرية ليصدح باغنياته الجميلة ، بل غني للسودان و لأول مرة ظهر علي الجمهور السوداني بأغنية عازة في هواك في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، وقد أداها بمزيج مابين الأمهرية والعربية وذلك بمسرح غردون ، وقد تحدث عن أنه يهدي الأغنية لاستاذه السوداني عبدالرحمن شداد والذي علمه الانجليزية في المرحلة الوسطى بأديس أبابا ، ويعتبره بمقام الاب بالنسبة له ، ويقول انه قد نصحه بالابتعاد عن أديس أبابا والهجرة للسودان ليطور موهبته في الغناء .
كما شارك تيلاهون قيسيسي في مهرجان الثقافة والفنون الذي كان ينظمه نظام مايو ، فانشد رائعة خليل فرح مرة أخري (عازة في هواك) وابكي الحضور بصوته السريالي وبكي تيلاهون بدموع الصدق والمحبة حين كان يغني لعازة السودانية بكل حواسه وجوارحه معربا عن حبه الشديد للشعب السوداني .
ونشير الي أن تيلاهون قيسيسي يعتبر هو فنان إثيوبيا الأول ، وقد سجل عدد مائة أغنية علي شرائط الكاسيت كما ساهم مع مجموعة من زملائه الفنانين المميزين بإثيوبيا مثل مولاتو استاتكي ومحمود احمد ومنليك ، قد ساهموا جميعهم في تطور وانتشار الأغنية الإثيوبية بالقرن الافريقي والعالم ، كما سجل تيلاهون حوالي سبعون اغنية أخري علي اسطوانات الفينيل.
و تيلاهون قيسيسي المولود لاب من الامهرا وأم من قومية الارومو في سبتمبر من العام 1940 م ، يعتبر مزيجا ثقافيا واجتماعيا للشعوب الإثيوبية ، وقد ساعده ذلك المزيج الاثني في تشكيل بعد ثقافي عميق بالداخل الإثيوبي ، وأصبح معشوقا للاثيوبيين بفنه وكلماته التي تمس الوجدان الإثيوبي ، كما أن اغنياته كانت تعبر عن الواقع السياسي والاقتصادي لإثيوبيا ، فكان أن أطلقت عليه الصحافة المعارضة للدرق (فنان الشعب) ، وجاء بعده جيل واعد من الفنانين الاثيوبيين مثل المايو شاتيي وعدد اخر من الفنانات الواعدات مثل هيلين برهي وهيروت بقلي وهيمونيت وصولا الي سلام ، مع عدد اخر من الفنانين الاثيوبيين مثل فنان الشباب الرائع (تيدي افرو) والذي تغني بوسط الخرطوم علي مسرح نادي الأسرة ونادي الضباط في العام 2014م ، اذ شدي بالعديد من الاغنيات السودانية لعمالقة الفن السوداني وردي وسيد خليفة وترباس وغيرهم.
ويوجد تداخل لحني وموسيقى رائع بين الأغنيتين السودانية الإثيوبية وحتي علي مستوي الكلمات والتذوق ، إذ غني كل من المخضرم الراحل عبدالعزيز المبارك بكلمات إثيوبية وبعده جاء الراحل نادر خضر علي ذات القالب .
ولعل من طرائف التراث الغنائي السوداني ان بعض شعراء الأغنية السودانية قد نظموا قصائد غنائية في تمجيد شخصيات إثيوبية ، مثل ما أفادنا بذلك السفير عثمان السيد الرجل الخبير في قضايا القرن الافريقي ، إذ نقل عن السفير الراحل مصطفي مدني معلومة وردت في كتابه حول تجارب دبلوماسية ، إذ يقول السيد السفير أن شاعرة اغنية (سمسم القضارف) والتي غنتها الراحلة عائشة الفلاتية ، إذ ذكرت عشة الفلاتية انها قد عثرت بالصدفة علي كلمات الأغنية وكان ذلك خلال مناسبة (سماية) بأحد أحياء ام درمان ، ويقول السفير مصطفي مدني أن شاعرة الأغنية قد نظمتها تغزلا في وسامة وقوة شخصية امان عندوم العسكري والسياسي الإثيوبي المولود بالسودان والذي نعته الأوساط السياسية والاجتماعية وحزنت علي مقتله ، إذ يقول مقطع الأغنية
أمان بريدك ريدة…
ريدة الحمام لوليدها
ولاحقا تم تعديل المقطع الي
(حبيب بريدك ريدة) .
وليالي العاصمة الإثيوبية الناعمة الباردة الحالمة ، عادة من ماتحتضن أنديتها ومراكزها ومطاعمها ومقاهيها ، تحتضن بكل الود والدفء والحب ، من يترنموا ويشدون بالأغاني السودانية من الفنانين الاثيوبيين ، وحتي المراكز الثقافية مثل مركز (فندكة) الذي انشأه الاثيوبي ملاكو بيلاي وخصصه للفن التشكيلي الافريقي والغناء السوداني علي وجه الخصوص ، فبحسب حديثه أنه قد أنشأ المركز للتعبير عن حبه وامتنانه للشعب السوداني ، إذ يقول ملاكو انه يعتبر نفسه ابن مدينة القضارف الغرة ، ويقول أنه قد جاء إليها لاجئا مع والدته وعمره وقتها كان ثلاثة أعوام ، وقد عرف الحياة والناس وتفتحت عينيه في القضارف ومجتمعها ، ويضيف ان والدته أكثر حبا منه للقضارف وكانت ممتنة للعديد من الأسر السودانية التي فتحت لها البيوت والقلوب ، وهي لاتنسي ابدا ان ابنها ملاكو كان الجيران يعتبرونه مثل أولادهم تماما ، وقد أكمل تعليمه بمدارس القضارف .
ومازال مركز فندكة الثقافي الذي يملكه ملاكو بيلاي ، حتي اليوم يلعب دورا هاما كجسر ثقافي بين الشعبين السوداني الإثيوبي ، ويستقطب حضورا اجنبيا كثيفا، لانه يقدم نماذج منوعة من الغناء الإثيوبي و الأفريقي وخاصة الفن السوداني، وقد نال المركز جائزة تقديرية من الاتحاد الأوروبي.
توفي الفنان تيلاهون قيسيسي في التاسع عشر من أبريل في العام 2009 م ، عن عمر 68 عاما ، وبرغم من الرحيل الحزين بسبب معاناة تيلاهون من المرض لفترة طويلة ، الا أنه قد ترك اثرا ثقافيا وارثا فنيا ضخما للقارة الأفريقية ، اذ ساهم بفنه وخلقه الجميل في تقريب المسافات الاجتماعية والثقافية بين شعوب منطقة القرن الافريقي.