مشهد جديد .. عبدالسميع العمراني : أمان عندوم الجنرال الذي عاش بثلاثة قلوب

الجنرال الإثيوبي أمان عندوم (من جذور إريترية) ولد في الخرطوم في يونيو من العام 1924م ، ودرس مراحله الأولية بالسودان ، بعدها التحق بكلية كمبوني ثم مدرسة سانت جورج العسكرية في الخرطوم ، وبعد دخول القوات الإيطالية الي إثيوبيا انضم امان عندوم الي القوات الاثيوبية بالسودان وهي القوة التي قادها الأمبراطور هيلاسيلاسي ، وقد حصل عندوم علي رتبة ملازم ثاني بالجيش الإثيوبي، وبعد انتصار إثيوبيا وطرد القوات الإيطالية في العام 1941 م ، عاد امان عندوم الي بلاده إثيوبيا ترقي سريعا في الجيش الإثيوبي بسبب قدراته العالية والانضباط وقوة الشخصية والنزاهة والاخلاص في عمله، إذ وصل الي رتبة اللواء في العام 1962 م ، وفي العام 1964 م ، تم ابتعاثه خارج إثيوبيا ملحقا عسكريا لبلاده في السفارة الإثيوبية بواشنطون ، وهنالك حصل علي درجة البكالوريوس في الإدارة من جامعة هوارد ، وعقب عودته أواخر العام 1965 م ، تم تعيينه من قبل الأمبراطور هيلاسيلاسي وزيرا للدفاع وأصبح الرجل الأول في الجيش الإثيوبي .
تميز الجنرال أمان عندوم عن أقرانه بكونه كان ذا حضور طاغي ولديه قوة شخصية لاتخفي علي احد مع أنضباط عسكري صارم ، وقد عرف عن الرجل انه صاحب مباديء وأخلاق عالية ، و كان معروفا بالعدل والانصاف ويرفض الضيم والظلم ولعل ذلك كان أكثر مايغضبه ، لذلك كان محبوبا بدرجة كبيرة من قبل ضباط وجنود الجيش الإثيوبي. ٍ
قاد امان عندوم القوات الإثيوبية التي قاتلت في الحرب الكورية وحصل علي أعلي الأوسمة من الأمم المتحدة ، وبفضل حسن قيادته وادائه المتميز ، جلب لبلاده الشرف العسكري والسمعة الحسنة ، وكوريا الجنوبية لازالت ممتنة حتي اليوم لإثيوبيا بفضل القوة العسكرية الإثيوبية التي قادها الجنرال امان عندوم وقد تم توقيع عدد كبير من الاتفاقيات الفنية وبروتوكولات الصداقة مع قيام العديد من المشاريع التنموية الكورية في إثيوبيا نتيجة لتلك الخدمات التي قدمتها القوات الإثيوبية لدولة كوريا .
كما أن الجنرال الإثيوبي امان عندوم كان قد برز نجمه خلال حرب الاوغادين بين إثيوبيا والصومال وقد أطلقت عليه الصحافة الإثيوبية وقتها لقب ( أسد الصحراء) .
وبعد الاطاحة بحكومة الأمبراطور هيلاسيلاسي في العام 1974 م ، تم اختيار امان عندوم كرئيس لمجلس الضباط الذي عرف حينها باسم (الدرق) والذي كان يقوده الثلاثي امان عندوم وتفري بنتي ومنقستو هيلا ماريام ، وقد تم اختيار امان عندوم بسبب شعبيته الهائلة داخل فرقة الجيش الثالث المتمركزة في مدينة هرر .
وكان امان عندوم معروفا بالكرم والنزاهة والعفة عن المال العام ، كما أنه كان يرفض الدماء والقتل للخصوم السياسيين ، إذ انه اختلف مع ضباط مجلس الدرق حول مصير وزراء حكومة الأمبراطور هيلاسيلاسي ، فكان رأي كل من تفاري بنتي و منقستو يقضي بضرورة إعدام الوزراء المعتقلين من أعضاء حكومة الأمبراطور هيلاسيلاسي ، وكان عددهم (59) وزيرا ، الا ان امان عندوم عارضهم حول الفكرة ورفض اعدامهم بشدة ، كما اختلف مع زملائه في قيادة المجلس حول قضايا فنية إدارية أخري ، إذ طلب ان يقتصر المجلس علي كفاءات محددة وعدم الزج بضباط لايملكون مؤهلات ، عكس رغبة منقستو هيلا ماريام ، الذي أصر على إعدام الوزراء و تعيين ضباط أخرين بمجلس الدرق لايملكون مؤهلات إدارية وليست لديهم الكفاءة لإدارة شئون البلاد ، والنقطة الخلافية الثالثة مع مجلس الدرق كانت حول كيفية التعاطي مع جبهة التحرير الاريترية ، إذ أن امان عندوم كان قد ذهب الي اسمرا في زيارة شهيرة وتحدث الي عدد كبير من المعارضين والتقي بعض الثوار حيث اقنعهم بالابتعاد عن العنف ووعدهم بتنفيذ مطالبهم بعد عودته الي أديس أبابا .
الا ان أعضاء المجلس اعتبروا امان عندوم متواطيء مع قيادات جبهة التحرير الاريترية بحكم انه ينتمي عرقيا لإريتريا.
كل تلك الخلافات ادت لابتعاد (امان عندوم) عن اجتماعات رئاسة مجلس الدرق وفضل البقاء بمنزله وفقا لمثالية منه وتقديرات خاطئة ، وظل متابعا لبعض القضايا بهاتف منزله فقط ، وقد اصيب وقتها بالاحباط الشديد والغضب بعد اقدام ضباط الدرق علي تصفية وزراء حكومة الأمبراطور سلاسي ودفنهم في مقبرة جماعية ، وابتعاده عن المجلس أعطي الفرصة سانحة للعقيد تفري بنتي الرجل الثاني بالمجلس للغدر به ، إذ حاصرت قوة من الجيش الإثيوبي في نوفمبر 1974 م . منزله ، وكانت مدججة بالأسلحة الثقيلة ودبابة ، و احكمت القوة الحصار حول مقر اقامته بوسط العاصمة أديس ، وبعد ساعات قليلة تم اغتياله بعد مقاومة شرسة من طرفه .
ورغم ان تفري بنتي قد ظن انه قدم خدمة كبيرة للكولولنيل منقستو هيلا ماريام بالتخلص من الرجل القوي والأول وقتها بالجيش الإثيوبي امان عندوم ، معتقدا أن منقستو سيحفظ له ذلك الجميل ، في وقت كان فيه يعرف عدد غير قليل من الضباط بالجيش الإثيوبي ان قرار التخلص من امان عندوم ليس من أفكار تفري بنتي ، بل كان نتيجة لرغبة جامحة من منقستو هايلا ماريام وقد حققها له العقيد تفري بنتي ، و عرف عن الكولونيل منقستو حينها أنه الرجل الأكثر تعطشا للدماء وحبا للسلطة بمجلس الدرق ، إذ لم يكتفي حينها بإعدام الوزراء السابقين وتصفية امان عندوم بل تخلص كذلك من صديقه العقيد تفري بنتي بفترة قصيرة من اغتيال عندوم .
وهكذا كانت النهاية الماساوية لرجل عشق العسكرية وعاش بقلبه الكبير موزعا محبته مابين ثلاث شعوب ، إثيوبيا التي حمل جنسيتها و حيث عمل واخلص لها ، وإريتريا حيث انتمي عرقيا وحاول أن يحقن الدماء ، والسودان الذي احب حيث عاش وتربي وتعلم .
وجيل الخمسينات و الستينيات بالسودان لديهم ارتباط كبير بسيرة هذا الجنرال الكبير العطرة ، فقد كان امان عندوم محبوبا لدي الشعب السوداني بدرجة كبيرة ، وعاشت أسرته الكبيرة بين أحياء العمارات والديم وشارع الحرية ، وبعد مقتله حزنت عليه العديد من الأوساط السودانية ، وقد اقيمت مراسم العزاء من ترانيم وطقوس وصلوات علي الطريقة المسيحية في أحياء الديم والحلة الجديدة من أقاربه ومحبيه والذين بكوا عليه بدموع ساخنة حزنا علي فقده .
وكان الجنرال المغدور ، وبعد توتر علاقاته مع المجلس العسكري قد فضل ان يرسل أسرته بعيدا عن أجواء أديس أبابا المتوترة وقتها ، اذ ارسلهم الي الخرطوم ، وعاش أطفاله في حي العمارات وتعلموا بمدارسها الي فترة الثمانينيات ، وبعدها غادرت أسرته الي الولايات المتحدة الأمريكية.
لتنطوي صفحة خضراء مخضبة بالدم لمسيرة رجل أثيوبي وقائد عسكري فذ بالقرن الافريقي ، رجل أحب الشعب السوداني ، واحبته كذلك الأوساط السياسية والاجتماعية السودانية وحزنت كثيرا لنهايته المأساوية .

مقالات ذات صلة