مشهد جديد .. عبدالسميع العمراني: الأمبراطور هيلاسيلاسي والسودان

الأمبراطور هيلا سيلاسي يعتبر أخر الاباطرة الذين حكموا إمبراطورية الحبشة ، وكان اسمه حين مولده (تافاري موكونان) ، لكنه غيره الي هيلاسيلاسي عندما أصبح إمبراطورا للحبشة ، وقد ولد في يوليو 1892 بمدينة إيغارسا غورا التي تبعد نحو 18 ميلا عن مدينة هرر شرق إثيوبيا.
وتعدّ أسرته من نبلاء قومية الأمهرا ، حيث كان من أحفاد ساهيلا سيلاسي حاكم مملكة شيوا، وكان والده راس موكونن ابن عم الإمبراطور منليك الثاني، الذي عينه كبيرا للمستشارين بقصر منليك وحاكما لمنطقة هرر .
بعد وفاة منليك الثاني عام 1913 ، تولى الحكم حفيده ليج اياسو ، لكن الإمبراطور اياسو واجهته مؤامرات عديدة واتهمته الكنيسة انه قد دخل الدين الإسلامي، وفي ظروف غامضة تم التخلص منه فكان ان ال الحكم الي ابنة منليك الثاني الأميرة الجميلة زوديتو ، وقد حكمت زوديتو خلال الفترة من 1916م الي 1930 م.
وبعد وفاتها ال العرش الي الراس تافاري موكنن هيلاسيلاسي.
وخلال فترة حكمه التي امتدت لأكثر من أربعين عاما واجه الأمبراطور عواصف داخلية وخارجية عنيفة الي ان انتهي حكمه بانقلاب ضباط الدرق بقيادة امان عندوم والعقيد بنتي والمقدم منقستو هيلا ماريام.
وقد كانت علاقة الأمبراطور الإثيوبي بالسودان طيبة ، إذ أنه كان مهموما بشكل كبير باستقلال السودان عن بريطانيا ومصر ، لذلك وطد علاقاته مع عدد من السياسيين السودانيين الذين قادوا عملية استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955 م ، وابرز أصدقائه كان أول رئيس وزراء للسودان الاميرلاي عبدالله خليل والسيد عبدالرحمن المهدي والسيد صديق الهندي والشريف حسين الهندي ، إذ تشير العديد من الروايات الي ان عبدالله خليل قد ذهب الي أديس أبابا في زيارة استمرت 10 ايام وتشاور خلالها مع الأمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي بشأن انقلاب يخطط له للاطاحة بالحكومة وتسليمها للجيش ، وذلك بالتنسيق مع ا
مجموعة من ضباط الجيش ، وعلي رأسهم ابراهيم عبود وطلعت فريد ، فكان ان رفض الأمبراطور هيلا سيلاسي رفضا قاطعا فكرة الانقلاب وحذر منها عبدالله خليل ، ورغم تعهد عبدالله خليل للأمبراطور الإثيوبي الا ان قيادات حزب الأمة قد وقعت وقتها ضحية لحيلة ماكرة من المخابرات المصرية والتي اوهمتهم عبر خطاب مرسل من سفير السودان بالقاهرة ووقع في يد عبدالله خليل قبيل وصوله للجهة المرسل إليها وفي الخطاب تحذير من تحالف م مع بين حزب الشعب الديمقراطي والحزب الوطني الاتحادي، وأن هما يخططان للاطاحة في البرلمان بحكومة عبدالله خليل وذلك بعد تكوين حكومة ائتلاف بينهما ، فكان ان استعجلت قيادات حزب الأمة علي تسليم السلطة للجيش لقطع الطريق علي الاتحاديين.
وفي رسالة بتاريخ 25 نوفمبر 1958 إلى سلوينلويد، وزير الخارجية البريطاني، ذكر السفير أندروز أن زميله السفير الإثيوبي، ملس عندوم، الذي عاد لتوه من أديس أبابا حيث حضر المباحثات السرية بين خليل والإمبراطور قد أخبره «بأن الأمبراطور لم يترك لدى عبدالله خليل أي شك بأنه لا يرغب في وجود ديكتاتورية عسكرية عربية عند عتبة داره» ، ففي الرابع من نوفمبر من العام 1958 كان عبدالله خليل قد غادر أديس أبابا إلى أسمرا حيث أجريت له فحوصات طبية في المستشفى العسكري الأمريكي هناك. ويبدو أن السفير البريطاني أندروز كان مهتماً بنتائج تلك الفحوصات. فقد طلب من زميله الأمريكي السفير موزسسس أن يبعث له بنسخة من نتائج تلك الفحوصات عندما يتلقاها من أسمرا. عاد عبدالله خليل إلى الخرطوم في 7 نوفمبر 1958 من أسمرا مباشرة.

ورغم متابعة سفير الأمبراطور التطورات السياسية المتلاحقة في السودان وحرص الأمبراطور علي استمرار الحكم الديمقراطي في السودان الا ان الانقلاب قد وقع في نوفمبر 1958 م ، وقد حرص الرئيس ابراهيم عبود علي توطيد العلاقات السودانية الإثيوبية فكان ان تم التنسيق مع إثيوبيا ومصر في مايو 1963م وتوجت تلك الجهود بقيام منظمة الوحدة الأفريقية.
وقد ظل الأمبراطور هيلاسيلاسي وفيا لعلاقته مع الرئيس ابراهيم عبود ، وحتي بعد سقوط حكومة الفريق ابراهيم عبود العسكرية في أكتوبر 1964 م وعودة الحكم الديمقراطي كانت علاقات الأمبراطور هيلاسيلاسي مميزة مع القيادات السياسية السودانية ، وبعد صعود المشير جعفر محمد نميري الي الحكم بالسودان في مايو 1969 م ، حرص جعفر نميري علي علاقات مميزة مع الأمبراطور هيلاسيلاسي وقد لعب الأمبراطور الإثيوبي دورا كبيرا في إنهاء حرب الجنوب التي بدأت بتمرد فصيل انانيا منذ العام 1955 م.، فكان ان تم توقيع اتفاقية أديس أبابا في 1975 م والتي انهت الحرب في جنوب السودان وتم تعيين قائد التمرد جوزيف لاقو في منصب النائب الثاني لرئيس الجمهورية بالسودان.
كما أن الأمبراطور هيلي سيلاسي كان كثيرا ماجاء للسودان حينما تحدث له أزمة سياسية ، فبعد دخول القوات الإيطالية المعتدية واحتلالها اسمرا وزحفها نحو اديس أبابا ، غادر الأمبراطور الي القدس ومنها الي بريطانيا ولكن حينما أراد العودة لإثيوبيا ومقاومة الاحتلال الإيطالي جاء للسودان ومكث فترة بمدينة مروي مع عائلته وعدد من المستشارين حيث تم التخطيط للمعركة ضد الطليان ، وبالفعل زحف الأمبراطور من الحدود السودانية استطاع هزيمة الطليان وطردهم من إثيوبيا وعاد الأمبراطور الي عرشه.
وعقب الانقلاب الدموي الذي قادته مجموعة من ضباط الجيش الإثيوبي ضد الأمبراطور وقدامهم علي عزله خلال تواجده خارج إثيوبيا في زيارة له
الي بعض دول قارة أمريكا اللاتينية كانت عودة الأمبراطور ايضا عبر السودان ومنها نزل الي اسمرا فكانت بداية عملية اجهاض الانقلاب.
ولكن بعد أيام من عودة الأمبراطور الي عرشه تلقي نبأ حزين بوفاة ابنه وريث العرش.
وبعد وفاة ابنه بشهور قليلة ، جاء الأمبراطور الي السودان في زيارة ودية بدعوة من الفريق ابراهيم عبود ، وكان في برنامجها زيارة مدينة الأبيض حيث رافق الرئيس السوداني ابراهيم عبود الي مدينة الابيض حيث تم تنظيم احتفالا ضخما تخلله سباق للهجن وبعض العروض الفنية الاخري ، وهناك لمح هيلي سيلاسي ضابط شرطة سوداني من بين المكلفين بحفظ الأمن والنظام، وكان هوثيءصس الملازم الامدرماني كريم الدين محمد أحمد شديد بالرأس مكونن ابنه الذي قتل في حادث غامض باديس ابابا ، وقد كان الضابط السوداني بالفعل شديد الشبه لابن الأمبراطور الراحل وكأنهما توأم ، طلب الأمبراطور من رجال المراسم دعوة ضابط الشرطة ان يجلس جواره فهرع رجال المراسم الى كريم الدين يستدعونه للمثول بين يدي الإمبراطور ، وقد ظنوا في البداية أن الأمر لا يعدو أن يكون سلاما أو مصافحة أو ربما يود الاشادة به على حسن الأداء. لكن الإمبراطور فاجأهم حين وصل إليه الضابط السوداني ، ان أُفسح له مساحة للجلوس جواره في المكانوسط دهشة الحضور ، وحينما اتخذ هذا الضابط الشاب مكانه قرب الأمبراطور ، مد هيلاسيلاسي يده يتحسس الضابط من شعر رأسه بحنو الأب وعلم الضابط ان الأمبراطور قد تذكر ابنه الراحل بعد أن رائ الشبه الشديد بينه وولي العهد الإثيوبي الراحل موكنن ، وبعدها كان ان طلب الأمبراطور من الفريق عبود أن يصحبه كريم الدين الى الخرطوم ومن ثم الى أديس أبابا ، وبعدها بات كريم الدين يتردد على العاصمة الإثيوبية بين الفينة والأخرى فيعامل كأنه الرأس مكونن. وكان يدخل على ملك الملوك في كل وقت وهي ميزة لم تكن متاحة الا لشخصيات قليلة إثيوبيا.
ورغم تقدمه في السن استطاع الأمبراطور هيلاسيلاسي أن يظل فى كرسي الامبراطورية لفترة تجاوزت الأربعين عاما ، اذ بدأها ملكا فى 1928 ، ثم إمبراطورا فى 1930 بعد وفاة ابنة الأمبراطور منيليك الثاني الأميرة الجميلة زوديتو ، وقد كان السودانيين مولعين بشخصية الأمبراطورة الشابة زوديتو وهي أول امرأة في أفريقيا تتولي رئاسة دولة افريقية مستقلة في العصر الحديث ومعترف بها في عصبة الأمم ، وقد نظمت العديد من قصائد الغزل في جمال وقوة شخصية الأميرة زوديتو حتي ان بعض العائلات في الخرطوم قد أطلقت اسمها علي بعض المواليد من البنات، وقد كان هيلاسيلاسي في فترة حكمها يعتبر الأمبراطور الفعلي الا انه تولي الحكم رسميا بعد وفاتها في 1930 م ، وظل إمبراطورا لإثيوبيا الي ان انتهى حكمه 1974 م في انقلاب قاده الجنرال امان عندوم ومجموعة من ضباط تنظيم الدرق داخل الجيش الإثيوبي بقيادة كل من العقيد تفري بنتي والمقدم وقتها منقستو هيلا ماريام ، ورحل هيلاسيلاسي فى أغسطس من العام 1975 ، وبرحيله انطوت حقبة الاباطرة بدولة إثيوبيا .

مقالات ذات صلة