مشهد جديد .. عبد السميع العمراني : ديربي الدينكا والنوير سيحول جوبا الي اكوام رماد

كل من عمل بجنوب السودان من أهل الشمال يدرك تماما مستوي العداء ودرجات الكراهية بين قوميتي الدينكا والنوير ، فهي عداوة أكثر حدة من عداوة الخصمين اللدودين في عالم كرة القدم ريفر بليت وبوكاجونيورز ، فصراع الدينكا والنوير قد يجتذب بعض القبائل الاخري والتي قد تدخل مناصرة لأحدهما علي الاخر مثل قبائل المورلي او الفراتيت والباريا والزاندي والتبوسا والشلك وان كان هوي الشلك أقرب الي التحالف مع النوير باعتبار ان ملكال أرض الشلك هي واحدة من مناطق نفوذ النوير وتسمي مناطق شرق النوير في حين أن مناطق بانتيو – ربكونا هي غرب النوير.
وشاء المولي عز وجل أن ننتقل للعمل في سنين مضت بمناطق غرب النوير لفترة تجاوزت اربعة أعوام ، تعاملنا خلالها مع أغرب شعوب الأرض ، فقبائل النوير تشعرك كما ولو انهم ليسوا من البشر اذ لهم قانون خاص يحكمهم فهم شعب متمرد بطبعه يرفض التقيد بالقوانين الوضعية ولا يلين ولاينكسر بسهولة لطاعة الحكام ، وحتي الدين عندهم ستدرك انه لاوجود حقيقي له في حياتهم فهم مسيحيون فقط بالاسم ، وفقا لعادات وتقاليد القومية ولكن لاوجود لتطبيق شعائر المسيحية كمنهج حياة، إذ ان حياتهم الاجتماعية تبتعد تماما عن تعاليم الدين المسيحي ، فكل المسيحيين علي وجه البسيطة يلتزمون بالزوجة الواحدة مع وجود عشيقة في الخفاء عند اغلبهم ، بيد ان المسيحيين النوير لايتوقفون عند زوجة واحدة فيمكن ان يكون للفرد الواحد عدد خمسة عشر الي عشرين زوجة بل ان الابن يرث زوجة الاب وهكذا لديهم العديد من العادات والطقوس الخاصة بهم ، واذكر اننا كنا قد ذهبنا برفقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر الي منطقة كج وهي احدي مناطق نفوذ القائد استيفن بوي وهو من القيادات المقربة من رياك مشار ، ذهبنا الي هناك للمفاوضة من أجل إطلاق سراح عدد (16) اسير يتبعون للقوات المسلحة السودانية كان قد تم اسرهم في العام 1993 م ، وهنالك التقينا بالقائد ملوال وهو من قادة النوير فحكي لنا ان له عدد 19 زوجة انجبن له عدد 45 طفل مابين ولد وبنت وقال انه يعرف زوجاته ولكنه لايعرف الأبناء ، وهكذا حياة النوير الاجتماعية مليئة بالأساطير و الغرائب.
ومابين النوير والدينكا عداوة تاريخية تعود الي سنين طويلة ، ففي واحدة من زيارتنا الي بحر الغزال وبالتحديد منطقة كواجوك كنا ضمن وفد عسكري للتوسط لحل خلاف بين الدينكا والنوير باعتبار ان مناطق بحر الغزال لديها حدود مشتركة مع ولاية الوحدة، واذكر ان الحاكم وقتها ويدعي لويس كان قد حشد لنا مجموعات كبيرة من الدينكا لإظهار القوة وكانوا يقاطعوننا في الحديث بالترنم باغاني واهازيج عرفنا فيما بعد انها كلها تحمل شتائم للنوير وتمجيد لأبطالهم من الدينكا الذين خاضوا المعارك ضد النوير في حقي تاريخية مختلفة.
وحين عودتنا الي بانتيو وجدنا ان العداوة أشد ضرواة والنوير يعتبرون من اشرس البشر في الحروبات فلديهم شجاعة لاتقارن حتي بفراسة الأسود ِ.
بالعودة الي عنوان المقال وهو ديربي جوبا بين الدينكا والنوير وهي الحرب التي اشتعلت الان بعد أن اخمدت نيرانها لفترة تقارب عشرة أعوام ، فخلال العام 2015 م كان قد تفجر الصراع الدموي بجوبا بين سلفاكير الرئيس (دينكا) ورياك مشار نائبه كبير النوير ورغم انتهاء الازمة لعام وعودة الحياة الي طبيعتها في جوبا الا ان الحرب نشبت مرة اخري خلال العام 2016 م وتدخل بعدها السودان عبر وساطة لجأ بموجبها رياك مشار الي الخرطوم الي ان قاد مدير المخابرات الأسبق صلاح قوش العائد في 2018 م وساطة بين الجنرالين عاد بعدها رياك مشار بموجب اتفاق الخرطوم الي جوبا ولكن ظل مافي القلب في القلب وكل يتربص بخصمه ولايشرب اي منهم من كوب قدم في مجلس يجمعهما.
تفجرت الأوضاع مرة اخري بالأمس الثلاثاء الرابع من مارس 2025 م ، وتصاعدت حدة التوتر بعد اعتقال رياك مشار او وضعه في الإقامة الجبرية كما ورد في الاخبار ، ولكن هذه المرة لن تكون الازمة عابرة كما المرات الاخري ، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، أمريكا لاعادت هي أمريكا التي كانت حريصة علي استقرار جنوب السودان ، وتغيرت الازمنة والشخوص، حتي أفريقيا أصابها ما أصابها إذ خرجت فرنسا مجبرة من أفريقيا ، كما أن السودان والذي طال ما شكل الملجأ الملاذ الأمن للفارين من جحيم حروب جنوب السودان الداخلية ، ماعاد هو السودان المستقر ، بل أصبح الان وطنا تمزقه الحرب وحدوده مع الجنوب أشد التهابا، ويواجه البلد المتأمر عليه من جيرانه واصدقائه يواجه واحدة من أقبح حروب القرن الواحد وعشرون ، حرب تدعمها بخبث الإمارات وتغذيها دناءة وخسة جيرانه وحتي قادة السودان الاب و الذين كانوا يشكلون بلسما لجراحات جنوب السودان الان هم مهمومون بإعادة الأمن والاستقرار لوطنهم ، وحتي جنوب السودان نفسه لم يكن هو جنوب السودان قبل عشرة أعوام ، فوقتها كان الديربي نوعا ما دافئا ، ولكن الآن هنالك لاعبون جدد قد دخلوا الملعب وهم مجموعة من القادة العسكريين كانوا محسوبين علي سلفاكير ولكنهم الان مرتبطين بجهات خارجية يحملون أجندة وطموحات تلك الجهات التي تدعمهم مثل الإمارات وبريطانيا وإسرائيل اللاعب الرئيسي في اي صراع بافريقيا او الوطن العربي.
اشتعلت الحرب مرة اخري بسبب ضعف وسوء اخلاق العجوز المرتشي سلفاكير والذي اهلكه المرض وهو الرقيب اول السابق في الجيش السوداني قبل أن يتمرد وبعدها يصبح رئيسا كرتونيا لجنوب السودان .
وجنوب السودان ليس كما السابق فقد اضحي الان ذلك البلد المنكوب والذي مزقته الحروبات والصراعات منذ أن نال استقلاله في يوليو 2011م ، اضحي لعبة في يد الإمارات والقوي الدولية المتربصة بالسودان الشمالي، و تناصر تلك القوي وتدعم مليشيات الجنجويد وعصابات عبدالعزيز الحلو بغرض تفكيك الجيش السوداني وإعادة صياغة السودان من جديد وفقا لرؤي واحلام الماسونية العالمية.
اذن فأن ديربي جوبا المسلح بين مشار سلفاكير هذه المرة ليس كما كان في الماضي ، إذ يبدو اننا ننتظر صيفا ساخنا من الصراع بين الطرفين النوير والدينا، والمرجج ان تنفصل مناطق النوير وتطالب بحكم ذاتي خاصة وان كل نفط جنوب السودان موجود عندهم في حقول فلج او ملوط وسارجاث وحقول الوحدة ِ.
والنوير من القبائل الشرسة في القتال، إذ وصفهم تقرير نشرته (الجزيرة نت) انهم
“أشرس البشر” على ظهر الأرض ، و يمتلكون أساطير شعبية “شبه مقدسة”. تؤدي دورا كبيرا في وتذكية الصراع المسلح خاصة مع الخصم والعدو الدود الدينكا .
ويحتل النوير المرتبة الثانية بعد الدينكا من حيث التعداد السكاني (عددهم اكثر يزيد عن 2 مليون نسمة)
ويقول الباحث مبروك بوطقوقة في بحث له بعنوان “شعب النوير.. رؤية أنثروبولوجية” إن أساطير النوير شبه المقدسة لديهم تحكي أن جدهم الأكبر “لانجور” وهم ينحدرون أصلا من الجد “إبينوينق” شقيق “دينق” الذي هو جد الدينكا
ورغم أن الباحثين في شئون هذه القبيلة يؤكدون أنه لا يوجد تنظيم سياسي مشترك ولا إدارة مركزية لها، فإنهم يقرون بأن هنالك نسق اجتماعي مميز وتنظيم دقيق داخلهم إذ لديهم عادات متفردة ربما لا تضاهيها عادات اجتماعية في العالم. وتعتمد القبيلة في معيشتها على تربية الماشية وخاصة البقر الذي يرتقي عندهم إلى مقام الإنسان فلا يُركب ولا يُذبح ، وتدور عليه حياتهم الاجتماعية كلها ويعتبر أهم عناصر الثروة لديهم، وله مكانة كبيرة في غذائهم الذي يتضمن دائما اللبن والدم.
ومن عادات النوير شيوع التدخين بالغليون بين الرجال والنساء، وامتلاك أبنائها مهارات قتال عالية منعتهم قديما من الخضوع لاسترقاق الآخرين، لكنهم مع ذلك يعتمدون تقليدا اجتماعيا لمحاربة الضغينة بآلية تعرف بـ”زعيم جلد النمر”، وهو شخص متخصص ينتمي إلى مجموعة نسب معينة يُعهد إليها وفق طقوس محددة بإقامة فعاليات اجتماعية مختلفة في حياة النوير.
وتبرز أهمية هذا التقليد عندما يُقتل شخص ما، إذ على القاتل أن يتوجه فورا إلى “الزعيم” فيقوم الأخير بجرح يده حتى يسيل الدم ثم يبقى في منزل الزعيم لأنه “مكان مقدس” لدى القبيلة ولا يمكن هتك حرمته، وعلى “الزعيم” أن ينتزع من أقرباء القاتل وعدا بدفع تعويض لتجنب الثأر، ويقنع أقرباء القتيل بأن عليهم قبول التعويض.
وفي مايو 2009 احتفل أبناء قبيلة النوير يتقدمهم زعيمهم السياسي رياك مشار في جوبا عاصمة جنوب السودان بعودة عصا تسمى “دانق” كان يستعملها كاهن القبيلة “نقون دينق” في طقوسه، وأخذتها قوات المستعمر البريطاني عام 1929 من مقر الكاهن بالقرب من قرية “واط”، بعد هزيمة النوير في حرب بين الطرفين.
وكان “غليون الكاهن وطبلته” أعيدا بالفعل قبل ذلك من بريطانيا إلى منطقة النوير
وتنظر القبيلة إلى تلك العصا السحرية المصنوعة من جذور شجرة تمر هندي والمزينة بأسلاك النحاس باعتبارها رمزا لقوة القبلية في المنطقة، ويظنون انها مشحونة بـ”طاقة روحية هائلة”، وبحسب اعتقادهم ان من يمتلك تلك العصا هو من سيحكم جنوب السودان.