العلاقات السودانية الأمريكية من الذاكرة (تجربة الرئيس جعفر نميري ) … بقلم: أبوبكر الشريف التجاني الشريف
بسم الله به نبتديء وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نقتدي. العلاقات السودانية الأمريكية من ذاكرة وتجربة الرئيس الراحل جعفر نميري، تحمل بين طياتها ملامح ورسائل وإشارات تفتح المجال لإعادة تصحيح خارطة الطريق وبناء صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين. لقد اكتسب الرئيس نميري، بحكم منصبه السيادي والسياسي ، تجربة غنية وخبرة متعمقة بأسرار وخفايا السياسة الأمريكية تجاه السودان. وكانت علاقته الطيبة والحميمة بالإدارة الأمريكية في ذاك الوقت مدخلا لتحقيق العديد من الإنجازات البارزة، مثل : إنشاء جامعة الجزيرة، التي تعد أحد أعمدة التعليم العالي في السودان ، ثم إيقاف التمرد في جنوب السودان ، وهو الإنجاز الذي توج باتفاقية أديس أبابا.
*المؤامرة على الرئيس نميري: الحقيقة الخفية.*
بعدسقوط حكم الرئيس نميري، بانتفاضة أبريل 1985، تكشفت له حقائق محزنة عن الدور الأمريكي الخفي في تحريك الأحداث ، داخل السودان. فالانتفاضة التي أطيحت بحكمه لم تكن كما روج لها البعض ، تعبيرا عن إرادة شعبية خالصة، بل كانت – كما أثبتت الوقائع – مؤامرة مدروسة بإيعاز من الإدارة الأمريكية وبالتعاون مع بعض الجهات السياسية والحزبية الداخلية. لم يكن الرئيس نميري، رغم انتقاله من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي خلال الحرب الباردة ، عدوا للولايات المتحدة. بل على العكس ، كان حليفا استراتيجيا وصديقا حميما لها في المنطقة ، خاصة بعد ضربه الحزب الشيوعي السوداني ، الذي كان آنذاك واحدا من أكبر الأحزاب الشيوعية في افريقيا والوطن العربي. ورغم هذا التحول الجذري ، لم تنظر الولايات المتحدة إلى نميري كحليف دائم، أو عدوء دائم ، إنما تعاملت معه كما تتعامل مع كل حلفائها: أداة تستخدم لتحقيق أهدافها، ثم تتخلى عنهم عند انتفاء الحاجة إليهم. هي السياسة الأمريكية، المتطلبات والمقتضيات.
*خديعة الخروج وأسرار السياسة الأمريكية-*
حين سقط نظامه ، خرج الرئيس نميري من السودان مستدرجا ، بخدعة أمريكية محكمة ، حيث أقنع بالسفر إلى الولايات المتحدة بحجة حل أزمة القروض التي كان بنك النقد الدولي قد أوقفها منذ مطلع الثمانينات.وبالرغم من إدراكه لرائحة المؤامرة التي بدأت مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب، إلى السودان وزيارته لكردفان بحجة الجفاف والتصحر. فإن خيوط اللعبة لم تتضح له إلا بعد وصوله إلى أمريكا، حيث التقى بدبلوماسيين امريكيين أبدوا قلقهم لسقوط نظامه وأشاروا إليه بأن يعود إلى السودان لتدارك الموقف. لكن الحقيقة كانت واضحة:” قد قضي الأمر، وانتهى عهد الرئيس نميري “.
*دروس من تجربة نميري: السياسة الأمريكية بلاصديق دائم ولا عدوء دائم*
من خلال تجربة نميري، يتضح أن السياسة الأمريكية لاتعرف الأصدقاء الدائمين، بل تقوم على مبدأ المصالح ، والمتطلبات والمقتضيات والمتغيرات. فهي: تفتعل الصراعات وتحرك خيوطها عبر الوكلاء والعملاء والحلفاء ، وعند نهاية الصراع
تتفاوض مع الأطراف القوية، وليس مع المهزومين . أحيانا تضع المعوقات والعقوبات واحيانا ترفعها عند الحاجة؛ ولكنها لاتقدم دعما ماليا. تستخدم حلفاءها كأدوات: تتخلى عنهم بمجرد إنتهاء دورهم. نميري، الذي عاد إلى السودان بعد أربعة عشر عاما من سقوط حكمه، كان يحمل في جعبته ذخيرة وافرة من الخبرة السياسية والنضوج الفكري. لو أتيحت له فرصة ثانية للحكم ، لكان بالإمكان إعادة رسم خارطة جديدة للعلاقات السودانية الأمريكية قائمة على المصالح المتبادلة لا التبعية.
*خسارة فرصة القيادة الثانية:*
ترشح الرئيس نميري في انتخابات رئاسية منافسا للرئيس عمر البشير، في خطوة كان هدفها التأكيد على أنه لم يهرب من السودان، ولم يسقط بانتفاضة شعبية ، بل بمؤامرة مدبرة. غير أن ضيق الأفق السياسي وعدم الإعتراف بحكمة تجربته حالا دون أن ينال فرصة ثانية في الحكم.لو تنازل له الرئيس البشير لبرهن عبقرية السياسة السودانية أمام الإدارة الأمريكية.
*السودان: بين تعقيد السياسة الدولية وغياب الوحدة الداخلية*
اليوم، يواجه السودان تحديات أكبر في سياسته الخارجية، خاصة في ظل تعقيدات المشهد العالمي وتداخل المصالح في منطقة القرن الأفريقي، ومنطقة الساحل والصحراء. السياسة الدولية الآن أشبه بلعبة السيرك التي تتطلب مهارات عاليةفي التوازن والحذر.فالسودان بحاجة إلى: *وحدة وطنية شاملة: تجمع القوى السياسية حول رؤية مشتركة.*
وفي حاجة إلى خبراء سياسيين دبلوماسيين محترفين لإدارة الملفات الحساسة وأيضا في حاجة إلى حلفاء مؤثرين في المنطقة للتفاوض مع القوى الدولية. وأيضا في حاجة إلى سياسة خارجية متوازنة : تقوم على المصالح المشتركة مع القوى الكبرى مثل روسيا وأمريكا.
*أخطاء الماضي : عبرة للمستقبل*
حسم الفوضى السياسية بقفل الباب امام النشطاء السياسيين والعملاء الذين يستعينون بالاجنبي في الشئون السياسية الداخلية للبلاد. السياسيون الذين عارضوا نميري لم يكن لديهم خطة بديلة واضحة سوى لعبة الكراسي ثم تشويه صورته عبر الإعلام المعادي. هذا خطاب المضلل أضر بالسودان أكثر مما أضر بنميري ، الذي لم يثبت عليه أي فساد مالي أو إداري طيلة فترة حكمه. بل جنوا على مقدرات الدولة بحل جهاز أمنه الذي أثبت وطنيته ومهنيته. وللأسف تكررت الأخطاء بعد سقوط نظام البشير تم حل اجهزة امنية وطنية كانت تحمي السودان من التدخلات الخارجية ، مماجعل البلاد عرضة للصراعات الإقليمية والدولية.
الرسالة الاخيرة، إذا أراد السودان أن يستعيد مكانته، فعلى القوى السياسية أن تتوحد حول جيشها ، وأن تضع رؤية وطنية موحدة. وإذا لم يحدث ذلك ، فعلى القائد العام أن يعلن نفسه رئيسا للبلاد ، ويشكل حكومة وطنية تضم القوى الوطنية صاحبة المصلحة التي ساندته في حرب الكرامة، الشاهد هنالك انظمة عربية ملكية لاتسمح بالفوضى السياسية في طبيعتها أشبه بالحكومات العسكرية الصارمة ، وهي اكثر تطورا واستقرارا ونموا من شعوب تطالب حكوماتها بالديمقراطية والمدنية.
في الختام، نأمل أن يتفق الشعب السوداني على كلمة سواء من اجل وحدة وامن وسلام السودان. الله المستعان .والسلام على من اتبع الهدى.