حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب :حريق القصر الجمهوري..
القصر الجمهوري بالخرطوم واحد من أهم وأثمن المعالم التاريخية في السودان، يرجع تاريخ تشييده إلى العام 1830 أي يقترب عمره من القرنين. ولأنه رمز السيادة فقد شهد أحداثا تاريخية بارزة أهمها مقتل غردون باشا في صباح 26 يناير 1885 واستقلال السودان في الأول من يناير 1956..
ومع ذلك لم تنجح الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال في تحويله إلى كنز أثري يدر على الخزينة العامة مئات الملايين من الدولارات وفوقها الاحترام والتوقير الشعبي عندما يصبح مزارا لتلاميذ المدارس يشاهدون فيه التاريخ الذي يفتخرون به وينضج الوجدان القومي..
عانى القصر من إهمال بليد، خلعوا أبوابه الأصلية وركبوا بدلا عنها ابواب المونيوم وزجاج، ورغم كونه مبنى قديما من الطين والرمل إلا أنهم ركبوا فيه مصعدا كهربائيا كان واحد من أهم عوامل ضعضعة بنيانه الذي يكاد يختل..
حتى آخر يوم قبل الحرب كان القصر الجمهوري مجرد مبنى قديم متهالك ليس له بواكي لا من رئاسة الدولة ولا الجهات المسؤولة عن الآثار.. وبدلا عنه ذهب الاهتمام إلى القصر الجديد الذي بناه الصينيون من حر مال الشعب السوداني وليس هدية كما يشاع..
عبر التاريخ ظل القصر مقرا للحاكم فردا أو مجلس سيادة خماسيا إلا أن مجلس السيادة بعد ثورة ديسمبر رفع العدد إلى 11 رأس للدولة في المرحلة الأولى ثم إلى 14 بعد توقيع اتفاق السلام بجوبا أكتوبر 2020 وكان متوقعا أن يرتفع العدد إلى 20 حال انضمام الأستاذين عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور إلى اتفاق السلام.
عندما اندلعت حرب 15 أبريل 2023 كانت تحرس القصر قوات الدعم السريع فوضعت يدها عليه واعلنته منطقة محررة من دولة 56، وكان الأمل أن يعلن الطرفان الجيش والدعم القصر منطقة منزوعة السلاح و خارج سياق الميدان العسكري، وهذا لا يمنح أو ينتقص من أي طرف ميزة عسكرية ، لكن للأسف تبادل طرفا القصف المدفعي الذي أثر على القصر الجديد ولحسن الحظ سلم منه القصر التاريخي الذي لا يحتمل ولو أصوات المدافع..
وخلال شهور طويلة من الشهر الثالث من بداية الحرب توقف القصف المتبادل في وحول القصر الجمهوري، وبدا كأن الطرفان وقعا اتفاقا غير مكتوب بضمان سلامته..
وفجأة اول أمس الأحد انتشرت صور يبدو فيها آثار حريق ضخم في مباني القصر الأثري والحديقة التي أمامه، وبعض جنود الدعم السريع يحاولون إطفاء النيران وهم يوجهون الاتهام للجيش بقصفه..
من الفيديو الذي بثه اعلام الدعم يبدو المشهد لحريق وليس لقصف، فمبنى القصر هش وضعيف لو تعرض لقصف لسقط أرضا بلا ادنى شك، لكن الفيديو يظهر المباني سليمة إلا التي أتت عليها النيران..
ما الذي حدث؟ الأمر يحتاج إلى تحقيق.. والى أن ينجلي الأمر من الحكمة أن تتدخل اليونسكو وتطلب من الدعم السريع اخلاء المبني مع امكانية البقاء حوله ، وأن يتعهد الجيش بعدم استهداف أي موقع في القصر ودائرة حوله نصف قطرها كيلومتر حتى لا يتعرض لضرر أو أي من المباني التاريخية المحيطة به مثل وزارة المالية ومبنى البوستة الرئيسي و وزارة الداخلية و رئاسة مجلس الوزراء و وزارة الحكم الاتحادي و المتحف جنوب القصر المطل على شارع الجامعة.
الأمر لا يحتاج إلى مفاوضات فليعلن كل طرف تعهده حتى ولو لم يستجب الطرف الآخر..