مشهد جديد .. عبدالسميع العمراني يكتب : حريق القصر وتدمير الخرطوم … مات نيرون ولم تمت روما
حريق روما الكبير كان قد دمر ثلثي المدينة في العام 64 ميلادية ، وبحسب روايات العديد من المؤرخين ان الروماني نيرون كان هو المتسبب في تدمير المدينة التاريخية ، إذ انه كان على خلاف مع مجلس الشيوخ واراد ان يحرق المدينة ليحكمها منفردا ويبنيها كما في مخيلته ، وتشير العديد من كتابات المؤرخين ان نيرون قد شوهد من أعلى برج ماكنش على تلة اسكيلين وهو يعزف ويغني مستمتعا بحريق وتدمير روما ، وقد أشار الروائي المصري انيس منصور الي ان نيرون كان شخصا دمويا قد ورث سفك الدماء من والدته انجريينا التي قتلت والده الإمبراطور كلوديوس ، وقد أكدت معظم الروايات عن حريق روما ان نيرون هو الفاعل إذ انه ارسل رجالا يتصرفون كالسكاري لاشعال الحريق في كل مكان بروما حتى تم إحراق ثلثها وتدمير مباني ومتاحف واثار تعود إلى قرون طويلة قبل الميلاد .
والغريب في أمر نيرون رغم وصفه بأنه شخصا دمويا وسفاكا للدماء ورجاله محبون للقتل والتدمير والحرق والنهب والسلب ، الا ان العديد من الكتابات التي تناولت سيرته الذاتية قد أشارت الي ان نيرون محبا لأعمال الخير وكثيرا مايوزع الهدايا و العطايا على العامة، فاي تشابه واي تلاقي بين نيرون روما نيرون السودان .
ولعل دورة التاريخ دائما صادقة وتتكرر بشكل مدهش وعجلته تتوقف ان كان على مستوى الأحداث او الشخوص ، فعدا الأنبياء الذين اختصهم المولي عز وجل بالمعجزات وميزهم سبحانه وتعالى عن البشر ، ولكن كثير من الشخصيات التاريخية تتكرر بشكل او اخر ، فمن يشبهون نيرون في جبروته وغروره وتناقض شخصيته المقهورة بين الخير الكامن والشر الظاهر كثر في العالم القديم والعالم المعاصر ، وأن تأملنا في الخرطوم التي تحترق وتتدمر ببطء الان وفي كل يوم وليلة ، سنجد ان الفاعل هو نيرون السودان الجديد (حميدتي )، فهو الميت الحي والذي ربما يجلس كما نيرون على بهو مقر اقامته بأحد ابراج الإمارات مستمتعا بروائح الدخان والدم وهو يشاهد الخرطوم تحترق والبنيات التحية فيها تتدمر ، إذ ان أكثر من (٤٠٠) مصنع قد خرجت تماما عن دائرة الإنتاج وتم تدمير كل الوزرات والاعيان المدنية وكل البنوك قد تم نهبها وسلبها ، وحتي المتاحف ودار الوثائق والجامعات وكل المباني التي كانت عنوانا للخرطوم و تحمل تاريخ وحضارة السودان، كلها تم تدميرها واحراقها بشكل متعمد ، والفاعل هو نيرون السودان ، فهو كما ولو انه الان في غيبوبة و يغط في حلم عميق طويل ، حلم يتمنى ان لايصحو منه الا وتعيده أجنحة اليمام الي الماضي الجميل الذي ولي الي غير رجعة ، وحميدتي لايريد ان يصدق الواقع الذي أمامه الان ، فقد كان نيرون السودان امبراطورا في زمان غار فيه الاباطرة ، ملك كل شيء بالسودان ولكنه قد حطم صنم العجوة بنفسه وبيديه تماشيا مع إرادة ورغبات قوي البغي والشر ، وهم كذلك قد تحطمت امالهم وتبخرت أمانيهم ووأدت مشروعاتهم بفضل الله ومشيئته ، إذ صخر لنا الله أبطالا كعبداللطيف وصحبه غرسوا النواة الطاهرة ، خاضوا اللهيب وواجهوا بشجاعة وبطولات نادرة جمع الطاغية. وحميدتي في طرفة عين فقد كل شي حتى ان روحه تؤكد العديد من الروايات انه قد فقدها ، و ربما من تصوره لنا القنوات السوداء ، ماهو الا شبح ونسخة مصنوعة منه ، شخصية بهلوانية تم رسمها لتلعب دور الجوكي ، لشخص آخر لايشابه حميدتي في تصرفاته وحركته فهذا الشخص يضم كفيه حين المشي ويرفع يديه لأعلى في شكل يشابه تصرفات شوفير فيلات البشوات ، ذلك الشوفير الذي عادة ما يرتدي القفازات وهو يتأنق بالفيانكا والبدلة باهظة الثمن لاجل تقديم كؤوس الماء والخمر لأرباب نعمته .
نعم احرقت الخرطوم كما احرقت روما من قبل، ولكن ستعود مرة أخرى جميلة ونظيفة وعفيفة متخلصة من كل ادران المرتزقة ودماؤهم المخثرة وَمتبقي جثثهم التي نهشتها الضباع والكلاب الضالة وصقور الجيفة ، ستغتسل الخرطوم ان شاء الله بمياه أعظم نهر في أفريقيا لتؤكد لعالم الغاب وعالم النظام العالمي الجديد الظالم، أن الخرطوم عصية على الانكسار وستمسح وتزيل كل الدماء التي سقت أرضها مدرارا ومنها دماء طاهرة نقية ممزوجة بروائح المسك ، ودماء اخري كثيرة فاسدة ونتنة ملوثة بالمال الحرام ودموع اليتامى و الثكالي والارامل و العذاري من حرائر الخرطوم ، وحتما مات نيرون والخرطوم لم تمت ان اقتبسنا او حرفنا النص الشعري الخالد لاحد عباقرة القصيدة العربية محمود درويش ، في رائعته ( مات نيرون ولم تمت روما ).