تدفقات اللاجئين من إثيوبيا بين الإنساني والسياسي
كتب د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
سياسة الباب المفتوح هي السياسة الرسمية التي تبناها السودان فيما يتصل بقضايا اللجؤ، منذ أن بدأ يستقبل أول موجات اللاجئين في ستينيات القرن الماضي من الكنغو ، فهو كدولة ملتزمة باتفاقية جنيف ١٩٥١ والبروتكول الملحق بها في ١٩٦٧ وموقع على اتفاقية اللجؤ الخاصة بمنظمة الوحدة الإفريقية OAU ١٩٦٩ الاتحاد الأفريقي AU لاحقاً. بل وحتى قانون اللجؤ السوداني لعام ٢٠١٤ تحتم عليه مواصلة هذه السياسة لإستقبال اللاجئين من دولة إثيوبيا كإلتزام اخلاقي مؤسس على تلك الالتزامات القانونية، وعملاً بمبادئ حفظ حقوق الانسان الهادفة لصيانة حقوق اللاجئين وحفظ كرامتهم وتقديم كافة الخدمات الأساسية لهم. وتأسيساً على ثقافة سودانية راسخة في إغاثة الملهوف وتقديم العون للمحتاج، بيد أن الوضع هذه المرة قد يجر السودان لأتون هذا الصراع نسبة لطبيعته الخاصة، فالصراع الذي اندلع مؤخراً في إثيوبيا، هو صراع بين سلطة مركزية من جهة، وإقليم داخلها هو إقليم التقراي، وقد لا يخفى على المراقبين أن هنالك ظلال إقليمية في الجوار لهذا الصراع يُشار إليها بأكثر من أصبع إتهام بالتدخل فيه، كما أن طبيعته من جهة أخرى تشير إلي عدم إمكانية حسمه في القريب العاجل. فهو ليس بالصراع الذي يمكن أن تنهيه هجمات خاطفة تجعل طرفاً فيه يذعن لإرادة الطرف الآخر. ولا هو كذلك حملة تأديبية لمجموعة منشقة ضعيفة الخبرة، منبتة الجذور حتى ترضخ لإرادة حاكم عام يحاول إرغامها على الكف عن سلوك معين. وبنظرة مجملة لديناميات هذا النزاع يتأكد أنه نزاع ارادات – في واقع عالم ثالثي – تتداخل فيه الأبعاد الساسية المرتبطة بقضايا التهميش لمجموعة عرقية معينة، مع المبررات القانونية المستندة على مساجلات حول الشرعية، وعلاقات المركز مع الأقاليم وحدود صلاحيات كل منهم في واقع فيدرالي لم يقو على تقديم نموذج قادر على الصمود في ضبط بوصلة الحركة بين المركز والأقاليم. وهذا نوع من النزاع لا تفلح فيه اتجاهات الحسم عبر فوهة البندقية، وإنما بالحوار والتراضي والاعتراف مبدئياً بمواطن القصور والاخفاقات ومحاولة معالجتها ضمن الأطر السياسية، وهذا ما لم ولن يتوافر لهذا النزاع على أقل تقدير في الأجل المنظور.
مهما يكن من أمر، فبالنظر لطبيعة هذا النزاع ومستوى ضراوة العنف الذي يحتويه و الذي بدوره يفرز حالات تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين Massive influx نحو السودان فاق العشرة ألف في أول أسبوعين، ويتوقع أن يتزايد بصورة كبيرة ومستمرة، ربما توفق المائتي ألف من البشر. يكون لزاماً على السودان اتخاذ كافة التدابير التي يمكن أن تعصم رجله من الانزلاق في هذا النزاع ، لاسيما وأن مثل هذه النزاعات قد تجعل من دول الجوار محطة انطلاق لأعمال عدائية من أي طرف من الطرفين. لذلك فإن على الجهات السودانية المختصة وتحديداً معتمدية اللاجئين C.O.R أن تعلن أنها تستقبِل اللاجئين من إقليم التقراي بناءً على التزامات السودان بالمواثيق الدولية، وأن تؤكد أمام المجتمع الدولي ممثلاً في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة UNHCR وبرنامج الغذاء العالمي WFP ومنظمة الصحة العالمية WHO أنها تستقبل هذه التدفقات الجماعية طبقا لمنهج Prima facie وهو منهج متعارف عليه دولياً في كيفية إسباغ صفة اللجؤ بناءً على معلومات مؤكدة من الدولة التي أفرزت اللجؤ. وأن المجموعات اللاجئة قد فرت من ظروف تحيطها مخاطر حقيقية على حياتهم أو قد يكونوا عُرضةً للأذى جراء العمليات القتالية التي نشبت في دولتهم، وهذا ما ينطبق حقيقة على وضع اللاجئين من إقليم التقراي. غير أن الإعتماد على هذا المبدأ فقط قد لا يكون مُجديٍ، خاصة إذا ما تطاول أمد الصراع وهو أمر وارد وتؤكده العديد من الشواهد في الظروف المماثلة … لذلك سيكون لزاماً على الجهات الأمنية المختصة أن تتحول إلي عملية الفحص الفردي الدقيق وبدعم مباشر من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بناء على ما يعرف ب Refugee Status Determination RSD وهو إجراء من شأنه أن يقفل الباب أمام أي إحتمال بإتهام السودان بإيواء بعض العناصر القيادية السياسية التي ربما تتسلل للعمل من داخل السودان، والتي سيكون من شأنها أن تُعقّد موقف السودان إنسانياً كمستقبِل للاجئين وتضعه في موقف المتهم سياسياً بمحاباة طرف من أطراف النزاع. كما أن هنالك اعتبار مهم، وهو أن حالة التدفق الراهن للاجئين الإثيوبيين يأتي والسودان لم يتعاف بعد من وقع كارثة السيول والفيضانات التي ضربته في خريف هذا العام ٢٠٢٠م، وهو بحاجة ماسة لمساعدات حقيقية من المجتمع الدولي والوقوف بجانبه للوفاء بهذه المهمة الانسانية الجليلة لمجموعات اللاجئين المتزايدة وتوفير كافة الخدمات الضرورية لهم.
إن إشراك المجتمع الدولي ممثلاً في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية من شأنه أن يحمل هذا العبء عن كاهل بلاد مثقلة أصلاً بتبعات نظام اقتصادي شبه منهار، وارتفاع مطرد في حالات الاصابة بجائحة كرونا. ونسيج اجتماعي متداخل مع اثنيات الجوار المتحاربة، ولا تنقصه تبعات لاجئين يمكن أن يشكل وجودهم مصدر ازعاج واتهام – هو في غنى عنه – بأنه يأوي عناصر مناوئة لنظام الحكم في دولة مجاورة ما قد يشكل لها ذلك مسوغات للتدخل المضاد في الشأن الداخلي السوداني بإثارة القلاقل والفوضى ودعم كيانات يمكن أن تكون نواة لتمرد يعم الشرق السوداني كافة.
د. محمد عبد الحميد