حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب : كيف تفوز.. بلا معركة..
كان يوما مشهودا.. بمصنع سكر حلفا الجديدة.. الاحتفال بانتاج جوال السكر رقم 400 ألف في واحد من أفضل المواسم..
كنا تلاميذ في المدرسة الابتدائية.. خصص لنا في الاحتفال فقرة لعبة تنافسية.. كنت واحدا من سبعة في تلك اللعبة العنيفة.. كل واحد منا ربطوا له في القدم اليسرى بالونة منفوخة والفائز هو من يظل حتى آخر اللعبة ببالونة سليمة.
صعدنا للمسرح.. المشهد مهيب، الجمهور كبير غالبيته من العاملين في المصنع –و ما أكثرهم- ومعهم أسرهم.. ومنهم أسرتي..
وقفنا في انتظار صافرة الحكم.. لم يكن هناك تكافؤ في الأجسام.. ظللت من رواد الصف الأول في الفصل منذ دخلت المدرسة، حيث يعتمد ترتيب الجلوس على البنية الجسمانية.. الأصغر فالأكبر.. و يظل سكان الصف الأخير هم عتاولة التلاميذ ومنهم دائما يصعد “الألفة” حافظ النظام بين الحصص..
المشاركون في اللعبة يتمتعون ببسطة في الجسم وخاصة الأقدام و السيقان الطويلة التي توفر لهم قدرة اطفاء بالونات الآخرين دون حاجة للاحتكاك .. أما أنا لم يسمح لي جسمي النحيل الصغير بأكثر من القفز برشاقة حول الحلقة دون الدخول فيها..
أطلق الحكم الصافرة.. هجموا على بعضهم بقوة.. كل لاعب يحاول قنص بالونة الآخر.. مع المحافظة على البالونة في قدمه سليمة..
ظللت أقفز مثل القرد الرشيق حول الدائرة مبتعدا عن الجميع..
كان الجمهور يصفق بشدة كلما نجح لاعب في اطفاء بالونة آخر، و يسحبه الحكم لينقص عدد المتقاتلين..
الجمهور يشجع زميلنا الأضخم جسما إذ حصد العدد الأكبر من تفجير بالونات الآخرين..
حافظت على موقعي خارج الدائرة لكن خلف هذا اللاعب بصورة مستمرة..
أخيرا لم يبق أمامه إلا لاعب آخر قريبا منه في الجسم.. وطبعا أنا اصلا لم أكن في دائرة المنافسة محافظا على موقعي خارج الدائرة أنطط برشاقة لكن بعيدا عن ميدان المعركة..
وجاءت اللحظة الحاسمة.. اللاعب الطويل الضخم.. وفي مهارة عالية محافظا على قدمع اليسرى التي ترتبط بالبالون مد ساقه اليمنى ونال من آخر لاعب متبقي غيري.. كان الجمهور يهتف ويصرخ بنشوة مشجعا له..
و في اللحظة التي رفع عينه للجمهور ليتمتع بنشوة التشجيع سمع صوت انفجار بالونته.. كنت خلفه تماما فمددت ساقي القصيرة وقدمي الصغيرة و “طرشقت” البالونة ..
رغم مرور كل هذه السنوات لا أنسى مشهد هذا اللاعب وهو يتحول ببصره من الجمهور لينظر إلى البالونة في قدمه وقد انفجرت ثم ينظر نحوي وكأني به يقول (انت؟؟).
كنت انظر للجمهور بزهو شديد وقد اختلط التصفيق بالضحك..
ثم جاءت اللحظة التاريخية.. حينما صعد مدير المصنع، الوقيع ، إلى المسرح لتسليمي الجائزة.. شنطة مدرسية جميلة ظللت أحتفظ بها حتى وصولي الجامعة.. ولم أضع بداخلها شيئا قط فهي أقيم من أن تحمل الكتب والأقلام..
اليوم التالي في المدرسة زملائي انتقدوا فوزي بالجائزة.. ردي عليهم ببساطة (هم استخدموا أقدامهم.. وأنا استخدمت رأسي..).
إلى أن قرأت يوما للمفكر العسكري الجنرال فون كلسفتش قوله:
النصر العظيم هو الفوز بلا قتال.
supreme victory is wining without fighting