“غلاء وجوع وأمراض”.. بورتسودان تقسو على نازحي الحرب
لم يكن أحمد عبد الرحمن، الذي فر بعائلته من مناطق القتال في ولاية الجزيرة وسط السودان إلى مدينة بورتسودان شرقا، يدري أنه على موعد مع حرب من نوع آخر في تلك المدينة الساحلية، وهي الغلاء الطاحن في أسعار السلع والخدمات، ليستنزف كل ما بحوزته من مبالغ في أيام معدودة ويجلس على رصيف المعاناة يحدق بمصيره المجهول.
وباتت الخيارات شبه منعدمة أمام عبد الرحمن في ظل اضطراب غالبية المدن السودانية، بينما نفدت كل مدخراته خلال رحلات نزوحه المتعددة، من الخرطوم إلى ود مدني مع بداية اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي، وبعدها من ود مدني إلى بورتسودان، وخلال كل هذه الفترة يتوقف عمله ولم يستطيع تحقيق أي كسب مالي.
وعبد الرحمن واحد من مئات الآلاف النازحين الذين وصلوا إلى بورتسودان بحثا عن النجاة، لكنهم اصطدموا بواقع قاس في هذه المدينة التي استقبلتهم بوجهها السياحي المكلف ماليا.
وتعتبر بورتسودان مدينة سياحية في المقام الأول، يقصدها الزوار المقتدرين ماليا من داخل وخارج البلاد بغرض الترفيه، حيث تمتاز بموقعها الجغرافي المطل على ساحل البحر الأحمر، ومعالم سياحية وأثرية فريدة، لكن ضحايا الحرب وجدوا أنفسهم مجبرين على التوجه لهذه المدينة.
وإلى جانب الخدمات الأخرى، تتعالي أصوات نازحي الحرب من الارتفاع المضطرد في إيجار العقارات السكنية في بورتسودان، التي يقولون إنها وصلت إلى أرقام غير مسبوقة تنافس الفنادق العالمية وربما تزيد عليها.
تصاعد مضطرد
وبحسب إدريس علي، وهو سمسار عقارات في بورتسودان، فإن إيجار منزل صغير (غرفتان ومطبخ) في الأحياء الطرفية يصل إلى 750 ألف جنيه سوداني، أي نحو 650 دولار في الشهر، أما الشقق المفروشة وصل سعر إيجارها الشهري إلى ما يعادل ألفي دولار للكبيرة، وحوالي 1500 دولار للشقة “استديو”، أي غرفة واحدة.
ويقول علي لموقع “سكاي نيوز عربية”: “ظلت إيجار العقارات السكنية في ارتفاع مستمر منذ اندلاع الحرب نتيجة للطلب العالي عليها، وتضاعفت الأسعار بعد وصول الصراع المسلح إلى مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة ووصول آلاف النازحين إلى بورتسودان”.
ونتيجة الحرب المحتدمة في الخرطوم، تحولت بورتسودان إلى ما يشبه العاصمة البديلة بعد أن انتقلت إليها كل الوزارات ومجلس السيادة الانتقالي ورئاسة المصرف المركزي والبنوك التجارية والسجل المدني والمؤسسات العدلية، بما في ذلك النيابة العامة والقضاء، كما صارت مقرا لإقامة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
وبخلاف غلائها الطاحن، تشهد بورتسودان انتشارا للأمراض الوبائية مثل حمى الضنك الفيروسية والإسهالات المائية الحادة والكوليرا، كما تواجه أزمة كبرى في المياه الصالحة للشرب، ويضطر السكان لشراء المياه المعدنية غالية الثمن.
ويروي عبد الرحمن لموقع “سكاي نيوز عربية” بأسى ما يتعرض له من معاناة في بورتسودان، بعد أن أصبح عاجزا عن سداد فاتورة المنزل الذي يستأجره في ضاحية الرياض غربي المدينة، وفشله في الوفاء باحتياجات أسرته من الأكل والشرب.
ويقول: “لم يعد أمامي خيار غير الخروج من المنزل المستأجر والتوجه إلى أحد مراكز الإيواء في المدينة، في وضع قاس واكتظاظ كبير ونقص في الغذاء والمياه الصالحة للشرب، وهذا سوف يعرضنا لخطر الإصابة بالأمراض والجوع معا، لكن ليس باليد حيلة”.
ويضيف: “اضطررت لبيع كل مدخراتي بما في ذلك سيارتي الخاصة من أجل مقابلة تكاليف المعيشة، حيث توقف عملي ولم نحقق أي كسب طوال فترة الحرب. أقف حائرا الآن بعد نفاد أموالي”.
كم من مليار لإغاثة السودان؟
نداء أممي لإغاثة السودان.. كم من مليار؟
دعم محدود
وتقف مراكز إيواء النازحين في بورتسودان على مجهودات تقودها غرف الطواري، وهي مجموعات شبابية طوعية تستقطب الدعم من التجار والجهات الخيرية لتوفير الأكل والشرب لهؤلاء الفارين، لكن في الغالب يكون الدعم المستقطب أقل من الحاجة الفعلية، فتأتي المعاناة.
وعلق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة ووكالات دولية أخرى أشطتها في ولاية الجزيرة منذ ديسمبر الماضي بسبب احتدام المعارك، كما تواجه هذه المنظمات مشكلة انعدام المسارات الآمنة للوصول إلى ضحايا الحرب.
وتقول سلمى آدم التي تقيم في أحد مراكز الإيواء في بورتسودان لموقع “سكاي نيوز عربية”: “أصيب أبنائي بالإسهالات وحمى الضنك بسبب المياه غير الصالحة للشرب ونقص الغذاء. نعتمد فقط على الوجبات المتواضعة التي تقدم في المركز وهي غير كافية للحفاظ على الصحة”.
وتضيف: “لا نستطيع شراء المياه المعدنية والأطعمة من الأسواق فهي مكلفة للغاية وتفوق قدرتنا. زوجي ظل بلا عمل طوال الفترة التي أعقبت الحرب. نعيش وسط جحيم هذه الأيام ونتمنى أن تتوقف هذه الحرب ونعود إلى منزلنا في الخرطوم، فهناك أستطيع تدبير شؤون حياتي”.
وتقترب الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع من إكمال شهرها العاشرة من دون أن تلوح إلى الأفق بوادر حل سلمي، وسط مساعٍ دولية وإقليمية لإعادة الطرفين الى مائدة تفاوض بغرض التوصل لاتفاق يوقف القتال.