حديث المدينة.. عثمان ميرغني يكتب :كيف يُصنع التطرف بمختلف درجاته؟
في أحد أيام الجمعة، كنتُ مع بعض المعارف في طريقنا لمناسبة اجتماعية خارج مدينة الخرطوم، عندما أدركنا وقت صلاة الجمعة توقفنا في أحد المساجد، كان الخطيب شابا – عرفنا لاحقا أنه طبيب – طفق يستدرج النصوص الدينية ليثبت أن الحياة الدنيا ليست إلا ”جيفة“ يتحتم التخلص منها بأعجل فرصة. النصوص ربما صحيحة لكن بكل يقين الفهم ليس صحيحا، بل هو بذرة صناعة العقل الإرهابي الذي يرفع راية الدين.
بعد الصلاة قلت له، لو تأملت الحياة التي تعيشها من حولك، من جهاز تكبير الصوت الذي استخدمته في إيصال صوتك للمصلين إلى الطائرة التي تحملك لأداء الركن الخامس في الإسلام، الحج، إلى العلوم التي درستها في كلية الطب والأجهزة والمعدات والدواء الذي تعالج به المرضى لوجدت أن العقل الذي أنجب كل ذلك لو كان ينظر للدنيا بالمعيار ذاته لما أهدى للإنسانية كل هذه المنجزات.
من مثل هذا الفهم للنصوص ينبت الفكر الذي يكبل العقل عن البحث والاختراع والاكتشاف والعمل فيصبح عالة على عقول أخرى هي التي تبحث وتنتج الحياة للإنسانية.
والذي يفجّر نفسه في الآخرين لا يفعل ذلك إلا بعد أن آمن أن مهمته في الحياة البحث عن بوابة الخروج بأعجل ما تيسر، هربا من ”الجيفة“ التي صورها له مَنْ فهم النصوص كذاك الخطيب الشاب.
آفة الرأي أن تستخدم النصوص الإسلامية المقدسة بلا ضابط معياري يجعلها متسقة مع الغايات الكُلّية للدين، ففي المثال الذي سقته هنا من خطبة الطبيب الشاب، النصوص التي استخدمها لا تُفهم مجردة عن الانسجام مع غايات الدين وفق نظرة كلية تستوعب المعنى في الإطار العام، أشبه بوضع ”تِرس“ صغير في ماكينة ضخمة، إذا لم يتسق وجوده مع منظومة الحركة الكلية للماكينة يؤدي لتعطيلها كليا.
الغايات التي يرسمها الإسلام تجعل محور الحياة العمل والعلاقة مع الآخر. والآخر هنا هو الإنسان والحيوان والنبات والجماد والبيئة وكل المفردات التي تشكل الحياة.
حتى العبادات رغم كونها خاصة لكن مغزاها وجدواها هو تأثيرها على ترفيع العمل والعلاقة مع الآخر، ومئات النصوص المقدسة تؤكد على العلاقة الطردية بين أداء العبادات وسلوك المرء في الحياة.
النصوص التي تذم الدنيا – بفهم الضوابط المعيارية للإسلام – تهدف لإفراغ الـ ”أنا“ لصالح الآخر بتثبيط نزوات الأنانية الفردية في مقابل البذل للآخر، وتحجيم شُح النفس في مقابل العطاء الذي لا يشترط الرد. مجمل العطاء الذي يبدأ من ”تبسمك في وجه أخيك صدقة“ إلى أن يرتقي لمقام من يكتشف دواءً ينقذ ملايين البشر من المرض، المعيار واحد مع فارق المقدار في مستوى الفعل المرتبط بالعلاقة مع الآخر.
القرآن اختصر كل هذه المعاني في كلمة واحدة ”الاستقامة“، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا..) و (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا…) و (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ..) و ( وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا..).
فالإسلام لا يضع تعليمات أشبه ببرمجيات الكمبيوتر ليحدد قوائم السلوك الصواب والخطأ ”الحلال والحرام“ حتى يلتزم مسلك الفرد والجماعة بها، لكن الفهم الصحيح للضوابط المعيارية لمعاني النصوص المقدسة يمنح القدرة على التمييز الذاتي ”الاستقامة“ بين الصواب والخطأ والحق والباطل، فيرتقي الفهم إلى مستوى ”استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك“، أشبه بسائق السيارة في الطريق، تضع السلطات الضوابط واللافتات الإرشادية لكن السلامة لا تتحقق باتباع التعليمات وحدها بل بفهم المقاصد منها، وهي ”السلامة أولا“، فيصبح المحك في قدرة السائق على التقدير الذاتي (الاستقامة) بما يحقق الغاية، فإذا قفز طفل صغير فجأة أمام السيارة فإن السائق يضغط على الكوابح تلقائيا بالغريزة لا بحسابات الاستجابة لتعليمات المرور. ولا تتحقق السلامة هنا إلا إذا تحققت ”الاستقامة“ التي تتحكم في الظرف العام من سرعة السيارة وانتباه السائق وعدم انشغاله بالهاتف مثلا وسيره في الجانب الصحيح من الطريق، وكلها عوامل تخضع للاستقامة في فهم المغزى الإجمالي من تعليمات المرور، وهو ”السلامة“.
الفهم القاصر لمقاصد النصوص الإسلامية هو المدخل الحقيقي للتطرف بمختلف درجاته.