حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب : مفاوضات “ظل الشجرة”
(تعالوا نقعد تحت ضل الشجرة دي ونتفاوض) موجها حديثه إلى الضباط والجنود في المنطقة العسكرية بحلفا الجديدة وكسلا، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان..و كأنما هو يغلق الباب تماما لأية مبادرة خارجية، و المقصود طبعا مجموعة “تقدم”..
لكن الصورة تبدو مربكة، فتنسيقية “تقدم” بعثت بخطاب للبرهان تطلب لقاءه وفي أي مكان أو زمان يختاره، بل وحددت بصورة أدق أنها تقبل بالحضور إلى بورتسودان ان وافق البرهان.
الخطاب لم يجد ردا رسميا، بل تلميحات في خطب سياسية مفتوحة أمام الجماهير تحمل رفضا للطلب.. فأين وكيف يمكن الوصول إلى “ضل الشجرة” التي عناها البرهان في خطابه الأخير..
في محاضرة ألقيتها في البحرين بعنوان “عكاظية الخطاب السياسي السوداني” أشرت إلى المسافة الفاصلة بين القول والفعل في الخطاب السياسي السوداني للدرجة التي لا يمكن التعويل فيها على ما يقال فوق المنابر.. فمن الممكن أن يصدر خطاب سياسي ضد التفاوض وبأقسى الكلمات، وفي اليوم التالي تسافر الوفود لتلتقي سرا أو علانية في أية عاصمة لتبتدر منبرا تفاوضيا جديدا دون حتى انتظار اغلاق المنابر المشرعة أصلا.. بما يجعل من (ضل الشجرة) الذي أشار إليه البرهان فعلا (ظل شجرة) تشرق عليه شمس الصباح ويتحرك مع صعود الشمس إلى كبد السماء فيكون مجرد ظل صغير محدود، ثم تميل الشمس إلى الغروب ويختفي “ظل الشجرة”.. وتصبح المفاوضات مجرد حالة عارضة لا تلبث أن تتلاشى بهدوء وراء الأفق كما حدث لمنبر جدة ثم مبادرة دول جوار السودان وأخيرا مبادرة الايقاد.. كلها أشرقت كشمس الصباح وجلس المتفاوض تحت (ظل الشجرة) إلى أن تميل الشمس ويختفي “ظل الشجرة”.
مثل هذا الوضع خطير للغاية ليس لأنه يجعل السلام مثل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد عنده شيئا فحسب، بل و لأنه قد يضع البلاد أمام سيناريوهات خطيرة غير قابلة للاسترجاع إذا انزلق السودان إليها، أقربها مثالا حرب أهلية طاحنة مفتوحة المكان والزمان..
لابد من تحديد “ضل الشجرة” الذي يريد البرهان من القوى السياسية ان تتفاوض تحته، لا أقصد المكان بل الامكان. والامكان هنا أن تكون هناك أفعال قادرة على جعل التفاوض مسارا للحل لا لشراء الوقت والاستمتاع بعذابات المواطن السوداني الذي بلغ مرحلة (إنني أعطيت ما استبقيت شيئا)..
من جانبي –و من باب النقد البناء- أضع أمام السيد رئيس مجلس السيادة مقترحا لـ”ضل الشجرة” الذي يستوعب الفرقاء السودانيين بلا حاجة لوساطات خارجية..
“ضل الشجرة” المطلوب هو منبر لا يوفر المكان والزمان المناسب للقاء القوى السودانية فحسب، بل العشم والثقة في أن ما تتفاوض ثم تتفق عليه سيكون هاديا للخروج من نفق الاحتراب.. ضمانات لالتزام كامل بما تتوافق عليه القوى السياسية السودانية..
و تبقى بعد ذلك الكرة في ملعب القوى السياسية السودانية، إن جد بها العزم فقد تصل لاتفاق ينهي الحرب في ثلاثة أيام أو أسبوع، وان اعتبرت المفاوضات مجرد “سوق عكاظ” لبيع الكلام المعسول، فتتحمل مسؤولية نتائج ذلك..
اقترح للسيد رئيس مجلس السيادة أن يعلن هو عن لقاء يجمعه بتنسيقية “تقدم” ثم لقاءات أخرى مع بقية القوى السياسية للاتفاق على “مائدة مستديرة” للتفاوض حول الوضع الراهن وحل الأزمة..
على أن يكون العرض محدودا بالزمان.. بمعنى أن يعلن الجميع قبل الدخول في التفاوض موعدا لنهاية الحرب، على الأقل من باب اشهار الجدية أمام الشعب السوداني، الذي سيمد حبال الصبر وينتظر الموعد المضروب، وبعدها يصبح في حل من التماس الحل لدى مكوناته السياسية..