انقطاع رواتب موظفي السودان يدفعهم إلى حافة الجوع
دعوات لأصحاب البقالات بفتح "دفاتر الاستدانة" حتى قبض المستحقات المتأخرة منذ 3 أشهر و"المركزي" يوجه بفتح حسابات للجهات الحكومية في المصارف
مع تواصل القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحول عشرات الآلاف من السودانيين إلى عاطلين عن العمل ومفلسين، بعد أن أغلقت جميع شركات القطاعين الحكومي والخاص أبوابها، وبات الموظفون يعيشون ظروفاً معيشية مأسوية، فمنذ اشتعال الحرب في 15 أبريل (نيسان) الماضي، وعلى رغم تأكيدات وتوجيهات وزير المالية جبريل إبراهيم المتكررة من مقره في بورتسودان، فإن الموظفين لم يصرفوا أجورهم حتى الآن.
وتتفاقم معاناة الموظفين كونهم الشريحة محدودة الدخل التي لا يكاد راتب الفرد فيها يكفي لإعاشة أسرة متوسطة من خمسة أفراد لمدة أسبوع واحد، لكن منذ أن اندلعت الحرب توقف كل دخلهم المحدود، وتعطل العمل في وزارات الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص، لا سيما وأن عيد الأضحى المبارك على الأبواب ومعه مزيد من الأعباء.
ومع المعاناة من شظف العيش فر الآلاف منهم إلى الأقاليم، ومن بقي داخل الخرطوم الملتهبة اضطر إلى ذلك لعدم توفر المال الذي يدفعه ثمناً لتذاكر السفر إلى الولايات الأخرى بعد الارتفاع الجنوني الذي شهدته أسعار التذاكر وشح الوقود، فبات السوداني الآن بين خيارين كلاهما مر: إما الموت بالرصاص أو العصابات المسلحة وإما الموت جوعاً أو بالقهر والضغوط النفسية.
ولم يقتصر تأثير الحرب في الموظفين محدودي الدخل وحدهم بل طاول حتى الأثرياء، الذين كان كثير منهم يحتفظون بأموالهم في البنوك، لكنهم لا يستطيعون الاستفادة منها الآن، نتيجة الشلل الذي أصاب النظام المصرفي، ولم يعد بإمكانهم الحصول منها إلا على مبالغ محدودة كسقف حُدد بنحو 50 ألف جنيه سوداني (83 دولاراً) في اليوم، بينما تعجز كثير من الأسر التي تعتمد في معيشتها على تحويلات أبنائها في دول المهجر عن تلقي أي تحويلات منذ بدء الحرب.
رزق اليوم باليوم
ليس العاملون بالرواتب الشهرية وحدهم من يعانون، فالعمال الذين يعتمدون على العمل اليدوي يوماً بيوم أو ما يعرف بـ”رزق اليوم باليوم” انقطعت مصادر دخلهم أيضاً، ونفدت مدخراتهم، وباع كثير منهم أغراضه الشخصية مقابل مبالغ زهيدة من المال لتلبية حاجاته الأكثر إلحاحاً في المأكل والمشرب.
يشرح الحداد، محمد أزهري حامد، كيف أنه اضطر إلى بيع جزء من أثاث منزله لشراء سلع غذائية بأسعار مضاعفة مما كانت عليه قبل الحرب، ولم يعد أمامهم سوى الاعتماد على وجبة فقيرة واحدة في اليوم حتى يكفيهم المبلغ لفترة أطول من الزمن.
يضيف “يبدو أن معاناتنا ستطول لذلك ليس أمامي سوى الارتحال إلى ولاية أخرى للبحث عن كسب العيش، لكن مشكلتي في عدم امتلاكي مصاريف السفر في حد ذاته لي ولأفراد أسرتي الثمانية التي تتجاوز مبلغ 440 ألف جنيه (800 دولار أميركي)، وهو مبلغ فوق استطاعتي في الوقت الراهن”.
في السياق حمل الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير الجانب المدني من الحكومة المركزية السودانية مسؤولية عدم القيام بمهامه بالصورة المطلوبة، قائلاً “لاحظنا الاختفاء التام لكثير من الوزراء المعنيين الذين كان من المفترض أن يتابعوا قضايا الموظفين ومرتباتهم وكذلك القضايا والمشكلات المعقدة التي تواجه أداء القطاع الاقتصادي في مثل هذه الظروف الحرجة”، متهماً الحكومة المركزية الحالية بالضعف الشديد الذي يلازم أداء وحداتها ووزرائها.
أوضح الأكاديمي أنه وبسبب ضعف أداء الحكومة “لم تستطع معالجة أمر مرتبات العاملين بالسرعة المطلوبة، على رغم أن هناك كثيراً من أوجه المعالجات المتاحة، إذ كان من المفترض أن تكون مرتبات الولايات في الأقل قد تم سدادها من دون تأخير، باعتبار أن التغذية المالية تتم في أحد فروع بنك السودان، سواء في بورتسودان أو ود مدني بغرض سداد رواتب الولايات”.
أما بخصوص ولاية الخرطوم والعاملين بالحكومة الاتحادية فلم تتم معالجة أوضاعهم حتى اللحظة، كونها تحتاج بحسب الناير إلى سلسلة إجراءات تشكل المعضلة الأساسية، وتشمل إعداد الكشوفات المفصلة للعاملين والتي يفترض أنها موجودة إما على الأنظمة أو على إيميلات المسؤولين الماليين بكل مؤسسة، حتى تتم على أساسها تغذية رواتب كل مؤسسة أو وزارة من البنك المركزي في حسابها، لتحول هذه المبالغ إلى حسابات العامين، كل بحسب فئته ودرجته.
دفتر الجرورة
يشير الناير إلى “وجود قضايا ومشكلات أخرى تتعلق بالتطبيقات المصرفية التي لم تعد تعمل بالكفاءة المطلوبة، وهذه لا بد من معالجتها في أقرب فرصة ممكنة بالاستفادة من الأخطاء الحالية، إذ كشفت الحرب عن أنه كان من الخطأ وجود كل رئاسات البنوك في مكان واحد في قلب الخرطوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأنظمة المصرفية التي كان لا بد من وجود نسخة احتياطية منها بإحدى عواصم الولايات أو حتى خارج السودان لضمان فعاليتها في كل الظروف”.
ودعت حملة أطلقها ناشطون ونقابيون سابقون السلطات إلى استعجال صرف أجور العاملين واستحقاقات المعاشات التي لم تصرف منذ ثلاثة أشهر مضت، بعد أن باتت تلك الفئات تعيش أوضاعاً معيشية متأزمة وبالغة السوء، سواء في الخرطوم أو الولايات الأخرى التي انتقلت إليها الحرب في دارفور.
وفي سبيل تخفيف وطأة تأخير صرف الرواتب تبنت منظمات محلية عدة مبادرات تناشد وتحث أصحاب محال البقالة، بخاصة داخل الأحياء، للتسليف والسماح بالاستدانة على نظام يعرف عند السودانيين بـ”دفتر الجرورة” أي الاستدانة والتسجيل على دفتر باسم المستدين، على أن يسددوا ما عليهم لاحقاً فور تسلم رواتبهم.
يقول محمد حمد عبدالرحيم، موظف بإحدى الوزارات المركزية “نزحنا إلى ولاية النيل الأبيض بأعجوبة ومخاطرة، لكن اكتشفنا أننا كموظفين نعتمد على الراتب الشهري أصبحنا ضحية عدم صرفه على رغم دخول الشهر الثالث منذ اندلاع الحرب، وليس المرتب فحسب بل معه أيضاً منحتا عيدي الفطر والأضحى”.
ويضيف “لقد بلغت معاناتنا حداً لا يوصف في الحصول على متطلبات الحياة اليومية في المأكل والمشرب، وبلغ منا التقشف وحصر الصرف على الضرورات درجة تقليص عدد الوجبات إلى واحدة فقط للحفاظ على مؤنتنا الغذائية، ونعيش الآن على آخر مبالغ مالية من مجمل مدخراتنا ما قبل الحرب، ولا نعلم ماذا سيحدث حال استمرار هذا الوضع وهل فعلاً سنواجه وأسرنا الجوع في ظل غياب أية معونات إنسانية غذائية”.
يناشد عبدالرحيم المجتمع الدولي والإقليمي لإغاثة العاملين بالقطاع العام، إذ لم تتمكن المنظمات الدولية أو الإقليمية أو المحلية من الوصول إليهم حتى اليوم لتقديم مساعدات غذائية لهم وبقية شرائح الشعب السوداني، مشدداً على ضرورة التدخل بشكل مباشر لعون الموظفين العموميين أسوة بالدعم الذي يقدم للنازحين واللاجئين بالمخيمات.
إجراءات “المركزي”
من جهته أعلن بنك السودان المركزي عن إجراءات لتجاوز تداعيات الحرب شملت إعادة النظر في ضوابط وإجراءات منح التمويل المصرفي للمستفيدين في القطاعات المختلفة، وإدارة النقد المتوفر بفروع البنك بما يمكن من دفع مرتبات القوات النظامية عن شهر أبريل 2023، بجانب مصروفات التسيير لبعض القطاعات إنابة عن وزارة المالية الاتحادية التي فقدت جزءاً كبيراً من مصادر الإيرادات بسبب الحرب.
قال البنك في منشور له إنه “تمكن من مزاولة بعض أعماله التي كانت تدار بصورة مركزية من خلال عدد من فروعه، منها فتح نوافذ لشراء النقد الأجنبي ومتابعة إجراءات الصادر، ووضع ترتيبات لانسياب التحويلات الخارجية من النقد الأجنبي لمقابلة بعض الالتزامات العاجلة”.
وعود من دون وفاء
أشار البنك المركزي إلى أنه “يتابع بشكل لصيق مع المصارف التي تعمل بمحولات خاصة لمعالجة المشكلات التي تواجه عمل خدماتها الإلكترونية، حيث أعيدت بعض التطبيقات للعمل وما زالت الجهود مستمرة لإعادة التطبيقات الأخرى المتوقفة”.
ووجه “المركزي” المصارف باستئناف العمل بفروعها في الولايات التي لا تواجه أخطار الحرب، إذ عادت بالفعل بعض فروع المصارف التي كانت متوقفة للعمل والسماح بفتح حسابات للجهات الحكومية في المصارف بتفويض من وزارة المالية كإجراء استثنائي موقت.
كما سمح البنك موقتاً بتجاوز شرط سريان صلاحية الأوراق الثبوتية المنتهية في أو بعد 15 أبريل (نيسان) الماضي، طالما يتم تقديم أصل المستند، مع السماح للمصارف بتمديد فترة صلاحية البطاقات المصرفية التي انتهت صلاحيتها لمدة ستة أشهر من تاريخ التجديد، والسماح للمصارف بفتح فروع أو مكاتب تمثيل لها في الولايات لتقديم خدماتها المصرفية شريطة إخطار بنك السودان المركزي فرع بورتسودان.
كانت وزارة المالية المركزية قد أعلنت نهاية أبريل الماضي توجيهها البنك المركزي بصرف مرتبات العاملين في الدولة عبر فروع البنك في الولايات، لتقوم بدورها بسداد التحويلات الجارية للولايات، غير أن ذلك لم يتحقق حتى اليوم.
عزا مراقبون واقتصاديون عدم صرف رواتب العاملين في عدة ولايات أخرى لم تصل إليها الحرب أو المعارك والاشتباكات إلى العجز الكبير الذي تواجهه الدولة نتيجة ضعف تحصيل الإيرادات العامة بسبب الحرب.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي أغلقت المؤسسات والدور الحكومية والخاصة أبوابها، ولم تتمكن الوزارات ومؤسسات الدولة من صرف رواتب العاملين فيها، كما انهارت التطبيقات المصرفية التي كان يعتمد عليها معظم الموظفين بخاصة والسودانيين بشكل عام، فضلاً عن الانهيار الذي لازم الشبكة المصرفية التي تسببت في عزل كثير من البنوك عن فروعها بالولايات.
المصدر / إندبندنت عربية