عثمان ميرغني .. الوساطة المصرية في الملف السوداني
عثمان ميرغني: الوساطة المصرية في الملف السوداني
رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل التقى رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان يوم الاثنين الماضي 2 يناير 2023 وأبلغه رسالة شفوية من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. وعلى ما في هذا الخبر من “روتين” تكرر كثيرا خلال السنوات الماضية، إلا أنه هذه المرة شغل وسائط الإعلام وأعاد فتح ملف العلاقات الثنائية السودانية المصرية.
الزيارة لم تكن لـ”دواع أمنية” كما قد يتبادر للأذهان، بل هي وساطة مصرية من أعلى مستوى، رئاسة الجمهورية، لمحاولة إماطة الأذى عن طريق التسوية السياسية في السودان وضمان بلوغها بر الأمان بعد أن وصلت الأوضاع في السودان إلى حافة الهاوية.
الوساطة المصرية اعتمدت مبدأ الدخول بالباب، عبر القيادة السياسية للسودان ثم التواصل المباشر مع القوى السياسية المتخاصمة لدرجة التنازع المفضي للفشل، وعقد رئيس المخابرت العامة المصرية اجتماعات مع “قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي” ثم الجناح الآخر “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديموقراطية”، في محاولة لإقناع الطرفين بالعمل معاً للوصول إلى التسوية السياسية بالتوقيع إما على الاتفاق الإطاري كما هو بلا تعديل، أو تعديله، أو إبداله بإعلان سياسي جديد.
فتحت مصر أبواب جامعاتها لاستقبال عشرات الآلاف من الطلاب السودانيين الذين إما ضاقت عنهم مؤسسات التعليم العالي في السودان، أو ضاقت أنفسهم بالإغلاق المستمر للجامعات السودانية.
لكن قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي استعصمت بالرد المسبق وهو رفض قبول “الكتلة الديموقراطية” مجتمعة أو فرادى باستثناء مكونين سياسيين فقط، هما حركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة السودانية برئاسة جبريل إبراهيم، لكونهما من أطراف اتفاق السلام الموقع في جوبا 3 أكتوبر 2020، ولا يمكن تجاوزهما في أية ترتيبات لاستكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية.
لم يكن مبعوث الرئيس السيسي راغبا في إيقاظ كثير من الحساسيات السياسية التي تفترض أن مصر تتعاطف مع أحد الطرفين، وأنها ترغب في استثمار ثقلها الدبلوماسي، لترجيح كفة على أخرى في الملعب السياسي السوداني، فغادر سريعا تاركا المهمة للرئيس البرهان.
في الحال، عقد البرهان اجتماعات مع المجموعتين، حصل فيهما على بعض التنازلات التي لم تصل مرحلة الاتفاق الكامل، لكنها فتحت ضوءا في آخر النفق يمنح الأمل بالوصول إلى اتفاق نهائي بين الكتلتين السياسيتين الرئيسيتين.
الوساطة المصرية لم تكن معزولة عن الجهود السابقة للرباعية الدولية التي تكونت من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي ما زالت الآلية المعتمدة من المجتمع الدولي للوساطة في الأزمة السودانية، تساندها آلية ثلاثية مكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الايقاد، تلعب دور المُيَّسِر للعملية السياسية في السودان.
خلال الأشهر القليلة الماضية، زارت وفود بريطانية العاصمة المصرية القاهرة أكثر من 10 مرات كان السودان فيها دائما على رأس أجندة الاجتماعات بين الطرفين، إذ إن بريطانيا على الرغم من علاقتها التاريخية الوثيقة مع السودان إلا أنها تُقَدِّر تداخل الأمن القومي المصري والسوداني والمصالح بينهما، وكون مصر الدولة الأكثر تأثرا وتأثيرا بما يجري في السودان، للدرجة التي تحتفظ فيها مصر بالملف السوداني دائما في كنف رئاسة الجمهورية وليس وزارة الخارجية.
الزمن المتاح لرؤية نتائج الوساطة المصرية قصير للغاية، إذ إن ترتيبات الورش التي تعقدها قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي لتطوير الاتفاق الإطاري إلى وثيقة دستورية نهائية ترسم خط النهاية لإمكانية التقاء المجموعتين السياسيتين، وتبدأ هذه الورش يوم الاثنين 9 يناير 2023، إلا إذا توصل الطرفان لتوافق بإرجائها ريثما يستكملا حوارهما.
والحال كذلك، يطفر السؤال: ما مصير الوساطة المصرية؟ وما السيناريوهات المتوقعة إذا فشلت في تحقيق اتفاق سياسي سوداني؟
لمصر علاقات واتصالات مباشرة بغالبية الأحزاب والساسة في السودان، وعلى مدى التاريخ السياسي المعاصر ظلت مصر الملجأ الأول للساسة السودانيين الذين يتبادلون أدوار الحُكم والمعارضة، ومع بدء تدهور الأوضاع الاقتصادية في السودان خلال السنوات القليلة الماضية شهدت مصر هجرات سودانية ضخمة، لم تستثن الأثرياء فضلا عن الفقراء، وتقدر الجهات الرسمية عدد السودانيين الذين يقيمون بمصر حاليا بأكثر من 5 ملايين، وانتقلت معهم كثير من الأعمال والنشاطات التجارية بل حتى المدارس السودانية التي بلغ عددها في القاهرة وحدها أكثر من 130 مدرسة.
وفتحت مصر أبواب جامعاتها لاستقبال عشرات الآلاف من الطلاب السودانيين الذين إما ضاقت عنهم مؤسسات التعليم العالي في السودان، أو ضاقت أنفسهم بالإغلاق المستمر للجامعات السودانية الذي بلغ حد تراكم 4 دفعات في جامعة الخرطوم وحدها.
لن تجد بقية الأحزاب السودانية حرجا ولا عنتا في القبول بملعب سياسي تقوده الأحزاب التقليدية التي ظلت تحظى بالثقل الأكبر في الانتخابات البرلمانية كافة خلال العهود التعددية منذ ما قبل الاستقلال.
بكل هذه المعطيات وغيرها، تتجاوز مصر كونها مجرد وسيط خارجي في الأزمة السودانية، فهي من تحمل على كتفيها أوزار حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي بالسودان.
إذا استمر رفض قوى الحرية والتغييرـ المجلس المركزي لتوسيع منصة الاتفاق الإطاري بمزيد من الموقعين والتعديلات التي يرونها، فستحكم على الاتفاق الإطاري بالموت السريري البطيء، وتفتح الباب للمكون العسكري والمضي قدما في تشكيل منصة سياسية يقودها حزبا الاتحادي الديموقراطي الأصل والأمة القومي.
الحزب الاتحادي الأصل حسم خياراته على أعلى قمة بتوقيع رئيس الحزب السيد محمد عثمان الميرغني على قرار بفصل ابنه محمد الحسن الذي وقع ممثلا للحزب في الاتفاق الإطاري. وهو قرار يعني عمليا أن الجسم الرئيس للحزب بات تحت قيادة شقيقه جعفر الميرغني، المنضوى تحت الكتلة الديموقراطية.
أما حزب الأمة القومي فهو على المحك، رسميا يلعب دورا مهما في قيادة قوى الحرية والتغييرـ المجلس المركزي، وعمليا تبدو توجهات آراء رئيسه المكلف اللواء “م” فضل الله برمة ناصر مَيّالة لتوسيع الاتفاق الإطاري بمرونة تسمح لأكبر عدد من القوى السياسية باللحاق بركب الموقعين..
اللواء بُرمة في منتدى إقامته رابطة أساتذة جامعة النيلين السبت الماضي 31 ديسمبر 2022 قال إن “على القوى الموقعة للإعلان السياسي فتح صدرها للقوى الأخرى، وعلى القوى غير الموقعة اللحاق بالموقعين”.
في غياب مؤسسات داخلية قوية في حزب الأمة القومي، والحياد الذي تحاول مؤسسة “كيان الأنصار” أن تلتزم به، يمسك بنات وأبناء زعيمه الراحل الصادق المهدي بغالبية الأوراق، ويبدو في الأفق القريب اسم “عبد الرحمن الصادق المهدي” مرجحا لتولى القيادة اعتمادا على قوة المنصة الجماهيرية التي بناها في صمت خلال انشغال الآخرين بيوميات السياسة المعطوبة.
لن تجد بقية الأحزاب السودانية حرجا ولا عنتا في القبول بملعب سياسي تقوده الأحزاب التقليدية التي ظلت تحظى بالثقل الأكبر في الانتخابات البرلمانية كافة خلال العهود التعددية منذ ما قبل الاستقلال (أول انتخابات جرت قبل الاستقلال بعامين).
وللمرة الثانية يعيد التاريخ نفسه، في المرة الأولى حاول السيد إسماعيل الأزهري وثلة من الخريجين التخلص من القيادة التقليدية الطائفية بمبدأ “فصل السياسة عن القداسة”، ورغم نجاح الفكرة في أول انتخابات سودانية فاز بها الحزب الوطني الاتحادي، إلا أن “لقاء السيدين”، الميرغني والمهدي سرعان ما جعل المبادئ تطأطئ رأسها تحت سطوة الطمع السياسي.
وبعد 67 سنة منذ الاستقلال، يجد السودان نفسه مرة أخرى في حضن الأحزاب التقليدية، بعد فشل الأحزاب الحديثة في قيادة البلاد نحو “الدولة” بعد “الثورة”.