عثمان ميرغني يكتب .. أزمة المصطلحات..
عثمان ميرغني يكتب:
أزمة المصطلحات..
تشرفت عصر أمس بحضور ندوة في مركز الدراسات السودانية الذي يرأسه الدكتور حيدر إبراهيم، كان عنوانها “ما بعد الإسلاموية” تحدث من منصتها السادة النور حمد و المحبوب عبد السلام وشمس الدين ضو البيت وجمال عبد الرحيم و ابتدرها د. حيدر إبراهيم.
و يبدو أن العنوان كان جاذباً بما يكفي لحرمان عدد من الراغبين في الحضور من دخول القاعة لازدحامها، و في المداخلات حميت المنافسة للحصول على فرص للتعليق و لم يكن ممكناً أن يسع الزمن المحدد للندوةكل الراغبين في التعقيب.
الذي لفت نظري وأكد لي الاستنتاج الذي ظللت دائماًأجتهد أن أجد ما و من يدحضه، هو أن السودانيين عموماً يعانون من “أزمة المصطلح”.. يصنعون أو يستعيرون المصطلح ثم يحيطونه بالأسوار العالية وفوقها الأسلاك الشائكة المكهربة و ربما حقول الألغام المفخخة لمنع الاقتراب من “المصطلح” أو المساس به، فتصبح حزمة المُسَلَمات هذه جدراناً عازلاً للتفكير النقدي فتؤدي لتجارب- غالباً سياسية- فاشلة وتتناسل من فشلها لتنجب أجيالاً من الفشل الممتد.
على سبيل المثال.. مصطلح “الإسلاموية” و “العلمانية” و “الحداثة” و يمتد التسليم حتى لمصطلح شائع مثل “الديموقراطية”..
“الإسلاموية” هي تصريف لفظي مشتق من “الإسلام” يُفهم منه استخدام “بطاقة” الإسلام لتسويق فكرة أو مذهب أو حزب سياسي، وبالضرورة مجمل الصورة التي يرسمها المصطلح سالبة وشائنة رغم كونها ألصقت بالدين “الاسلام” دون إثبات الارتباط العضوي بينهما.
أما “العلمانية” فأمرها أعجب؛ المصطلحات عموماًمثل الإنسان تحمل جنيناً ثم تولد وتكبر و تهرم وتموت مع الزمن، فالمصطلح لا يعني شيئاً بغير زمانه..”عصر الترانزستور” مصطلح اشتق اسمه من نهضة الإلكترونيات في ذلك الزمان الذي أصبح فيه “الترانزستور” اختراعاً ملهماً لمزيد من الاختراعات التي سرعان ما تجاوزته لعصر “الشرائح” وأشباه الموصلات.
“العلمانية” مصطلح زماني يصف الحالة التي شهدت صراع الدين ممثلاً في الكنيسة مع السلطة السياسية، ولكن مع مرور الزمن فقد معناه الفني الاصطلاحي تماماً عندما لم تعد حالة الصراع قائمة، و استوت سفينة المعارف على جودي التكوين السياسي المتصل بالتجربة الإنسانية و تطورها لا مع الحقائق الغيبية المرتبطة بالعقائد.
أما “الحداثة” فأمرها أعجب، وهي وثيقة الصلة بالعهود التي برز فيها مصطلح “العلمانية”. الحداثة فنياً تعني التناغم مع التطور المستمر في الحياة الإنسانية في النواحي كافة خاصة المتصل بالإنسانيات مثل الثقافة والأدب.
وبديهي أن “حداثة” أمس ليست هي حداثة اليوم، أشبه بنهر النيل الذي ننظر اليه من شواطيء الخرطوم ونظن إنه هو نفسه الذي رأيناه أمس، بينما المياه في تدفقها وجريانها تتبدل ليصبح النيل في كل يوم هو نيل “حديث” غير ذلك الذي وصل المصب وانزوى في مياه البحر المالحة.
ما نظنه “حداثة” اليوم ستطويه سنوات قليلة قادمة ليصبح قديماً واجب التخلص منه، مثل موديلات أجهزة الموبايل.
وبهذا الفهم فـ”الحداثة” لا تعني حالة بقدرما تعني قابلية التعامل والتعايش مع المتغيرات المرتبطة بالتطور الإنساني، وبهذا المنطق فهي لا تتطلب إقراراً ولا إنكاراً شفهياً أو شرعياً ، الطريقة الوحيدة لإنكار “الحداثة” أن يصعد مُنكِرُها إلى أعلى بناية ويلقي بنفسه فيلقى حتفه احتجاجاً على دنيا لا يريد أن يعيشها.
في منصة الندوة كان الدكتور حيدر إبراهيم يلبس الزي القومي السوداني جلابية وعمامة، وفي الصف الأول الأستاذة أسماء محمود بالثوب السوداني المعلوم، بينما في المنصة ذاتها والقاعة من يلبس البدلة والكرافتة بكامل الزي “الحديث” الذي اختارته ثقافات أخرى، فهل لاختيار الزي هنا في قاعة الندوة علاقة بـ”الحداثة”، فكراً وفهماً وثقافة؟
الفكر العربي عموماً -واقصد به تحديداً ما ارتبط باللغة العربية كوسيط معرفي-والسوداني خصوصاً، من فرط خموله وكسله يفضل التعامل بثقافة المنتج الجاهز ” Ready Made” فيغرق في التسليم بالمصطلحات لأنها تغنيه عن رهق التفكير والابتكار والنقد.
ينطبق ذلك على “الديموقراطية” فهي منتج عليه بطاقة Made in Westminster ..