حديث المدينة .. عثمان ميرغني .. مقترح منهج دراسي “علم الحياة”!

عثمان ميرغني .. مقترح منهج دراسي “علم الحياة”!

تعجبني كثيراً القواعد التي يعتمد عليها علم القانون، فرغم أن القانون تخصص ويتطلب مؤهلات بعينها إلا أن كثيراً من المبادئ القانونية تبدو عامة ترسخ لفن الحياة المنظمة وفق قواعد ومفاهيم عامة.. فلماذا لا نبدأ تدريس “القانون” من بداية مرحلة الأساس ليستمر حتى نهاية المرحلة الجامعية؟

الهدف هو صناعة عقلية شعبية ” تحيا بالقانون” بدلاً من أن “تخاف القانون” ، فالذي يحيا بالقانون يمتثل له عن حب ورغبة ، والذي يخاف من القانون يظل دوماً يبحث عن الثغرات والالتفاف والتهرب من القانون.

لصناعة أجيال وعقلية تدرك أهمية القانون ليس كمرجعية للتقاضي أمام المحاكم بل في بناء أسس الحياة العادية اليومية بنظام ومسلك يرتبط بقواعد متوافق عليها، فالقانون ليس مجرد مواد وبنود يتحاكم إليها الناس، بل نظام Order يجعل الحياة منظمة.. فالذي يقف بنظم في الصف أمام المخبز لينال نصيبه هو في الواقع يمارس “القانون” دون حاجة لمواد وبنود مكتوبة. والشاب الذي يتنازل عن مقعده في الحافلة لمن هو أكبر منه سناً يطبق القانون بعفوية وتلقائية دون حاجة لوثيقة مكتوبة، وهذا أقوى درجات القانون أن يصبح في مقام العُرف والعيب والأخلاق.

و حتى لا يخامر الإحساس النفسي ضيق التعامل مع تخصص علمي، الأجدر أن نطلق على هذه المادة إسماً يحقق الهدف منها، فلتكن “علم الحياة” The science of life فيكون في ضمير التلميذ أنه يتعلم الحياة لا تخصص القانون، فالحياة نظام وسلوك منضبط بقواعد أحياناً لا تكون مكتوبة لكنها محفورة في الضمير والأعماق.

ورغم ما ثار من غبار كثيف ودماء ودموع في أرض ميدان “المناهج” إلا أن التغيير المطلوب ليس مجرد كتب ودروس، بل مفاهيم و عقول.. و الأوجب أن نستنبط من واقعنا مطلوبات بناء الأجيال الجديدة، صحيح كثير من العلوم -خاصة التجريبية- نعتمد فيها على المنتوج العالمي الخارجي، لكن ذلك لا يمنع أن يكون لدينا إسهامنا الخاص في التنمية البشرية التي تعتمد على واقعنا المختلف كلياً في بعض تفاصيله عن المجتمعات الأخرى.

أوروبا والغرب عموماً، بل حتى الشرق الأقصى لا يعانون من الفهم الشعبي للقانون، فهي بلاد تخمرت فيها عصارة مئات السنوات من العيش في ظل دولة القانون، لكن بلادنا في المقابل عانت من ترجيح كفة التقاليد على القانون حيثما تصادم الأمران. والاختلاف واضح بين الإثنين، فالمجتمع الذي يعيش بالقانون يؤمن بأن مصالحه ترتبط بقدرته على المحافظة على القانون، بعبارة أخرى، المصلحة الخاصة تحميها المصلحة العامة. مثلاً لن يقبل شخص أوروبي أن يرى غيره يحمل النفايات من منزله ليلقيها في عرض الشارع، لا لأن ذلك مخالفاً للقانون المكتوب فحسب، بل لأنه يضر بمصلحة الآخر الذي إذا سكت على هذا الفعل فهو يدفع الثمن من تلوث البيئة حوله.

هنا في مجتمعنا أحياناً كثيرة تعلو المصلحة الخاصة على العامة رغم أن الضرر يرتد على المصلحة الخاصة، تماماً كما في المثال السابق، لن يقبل شخص في السودان أن تلقي النفايات أمام باب منزله لكنه لن يعترض إذا ألقيتها أمام باب الجيران. رغم أن فساد البيئة هنا يرتد عليه أيضاً.

دعونا نبتكر وسيلة لترسيخ عقلية دولة القانون في مجتمعنا بوضعها في المنهج الدراسي في مرحلتي التعليم العام والعالي.. ليصبح القانون فن للحياة، لا مجرد علم وتخصص من أجل التخاصم أمام المحاكم.

مقالات ذات صلة