عثمان ميرغني .. السودان.. والخطة “ب”

عثمان ميرغني .. السودان.. والخطة “ب”

تقريبًا نفد الوقت المتاح لإخراج السودان من المسار المتدحرج نحو الهاوية، ولم يعد ممكنًا إلا البدء بترتيبات الخطة ”ب“، خطة الطوارئ التي تستهدف إبطاء الانهيار لإعطاء فرصة أخيرة لاستدراك الأمر، وهذا أشبه بوضع شبكة مطاطية في الشارع لالتقاط رجل قفز من الطابق السابع.

وفي إحاطته أمام مجلس الأمن، يوم الثلاثاء الماضي، قال فولكر بيرتس، رئيس البعثة الأممية السياسية في السودان ”يونتامس“ إن (الوضع في السودان لا يزال حرجًا)، وكان مسؤول أممي رفيع أكثر صراحة حيث حدد بصورة قاطعة أن الوقت المتاح أقل من 30 يومًا.

وبحسابات دقيقة للمشهد السوداني، تبدو القوى الفاعلة التي يقع على عاتقها تحديد مصير البلاد مشغولة بالقضايا الهامشية والخلافات السياسية، بينما القيادة السيادية للبلاد غير قادرة على تخطي عتبة، 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، فقد توقف الزمن والفعل عند تلك العتبة، ومضت الآن 7 أشهر كاملة لم تنعم فيها البلاد ولو بتعيين رئيس وزراء أو حكومة تنفيذية فضلًا عن بقية مؤسسات الدولة الحتمية، مثل: المجلس التشريعي، ومؤسسات العدالة، والمفوضيات.

الخوف كأنه كلب (1 من 2)
التنصت على الجواسيس ونواب الدولة العميقة
والثغرة الخطيرة التي قد تفتح على السودان سيناريوهات غير معلومة العواقب هي الوضع المالي والاقتصادي، فعلاوة على تجميد المعونات الدولية، وتوقف كثير من الدعم المادي والمعنوي الخارجي للسودان، فإنه في شهر حزيران/يونيو المقبل، تبدأ مرحلة جديدة من التداعيات الاقتصادية بتوقف عملية إعفاء السودان من الديون التي ظلت تكبله عشرات السنوات.

مجمل ديون السودان الخارجية حوالي 60 مليار دولار غالبها لأعضاء ”نادي باريس“، وبدأت إجراءات إعفاء السودان من هذه الديون، في العام 2021، حتى وصلت الإجراءات مرحلة متقدمة يُطلق عليها ”نقطة القرار“، في حزيران/يونيو 2021 الماضي، وهي محطة تفضي إلى الخطوات الختامية التي تمنح السودان صك الخروج من أسوار سجن الديون الأجنبية لينطلق الاقتصاد في تعامل طبيعي مع كل المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة.

العالم وضع شرطًا واضحًا لاستمرار إجراءات إعفاء الديون، وهو تنصيب حكومة مدنية ”ذات مصداقية“، والعبارة الأخيرة هي بالضبط ما ظل يمنع المكون العسكري في السودان من إعلان حكومة مدنية.

”حكومة مدنية ذات مصداقية“ تعني توافقًا سياسيًا عريضًا يقنع الشارع الشبابي الذي ظل ينظم المواكب والتظاهرات خلال الأشهر الماضية أن يوقف الحراك الثوري، ويعلن موافقته على دعم الحكومة التنفيذية.

لكن التوافق السياسي يبدو أبعد من الثُريا في الوقت الراهن، فالأحزاب السياسية السودانية بينها ما صنع الحَداد، وغير قادرة – وربما غير راغبة أيضًا- في التضحية بالمكاسب الحزبية الصغرى لصالح المغانم القومية الكبرى.

تحولت الأحزاب وقياداتها إلى ”مُعَلِّقين“ ومحللين يكتفون بالبيانات أو المقابلات الإعلامية كأنهم يتحدثون عما يجري في ”هايتي“ لا بلدهم السودان، وتغافلت الأحزاب عن كونها صانعة القرار الذي بدونه لن يتغير الحال، أشبه بفريق لكرة القدم ترك اللاعبون الميدان وتزاحموا في ”غرفة البث“ للتعليق على مباراة يفترض أن يخوضها بأقدامهم لا أفواههم.

الوساطة الأممية التي صارت ”آلية ثلاثية“ بعد انضمام الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد إلى البعثة الأممية ”يونتامس“ تبدو شبه مشلولة وعاجزة عن إيجاد المخرج بعد أن عانت هي نفسها من خلافات بين ممثل الأمم المتحدة وممثل الاتحاد الأفريقي، وكأني بها هي نفسها بحاجة إلى وساطة، على رأي الفنان السوداني محمد وردي في أغنية مشهورة (حِليّل الكَان بِهَدِي الغير صِبِح مُحتَار يَكُوس هَدّاي).

ورغم أن المكون العسكري فَوّض 4 ممثلين له للحوار مع الآلية الثلاثية وعقدوا أول اجتماع مع الآلية، الخميس 26 أيار/مايو 2022، في القصر الجمهوري إلا أن المشكلة الحقيقية تظل في الضفة الأخرى، المكونات المدنية التي يُفترض أن تنجز توافقًا يؤهلها لاختيار رئيس وزراء ثم تشكيل حكومة قبل فوات الأوان.

المكونات السياسية منقسمة على نفسها بصورة إقصائية، فالحزب الشيوعي يلتزم بمبدأ ”الحل الصِفّري“، فهو خارج خريطة أي حل ينهض على مبدأ الحوار، ويفضل أن يمضي الحراك الجماهيري حتى يَقضي الله أمرًا كان مفعولًا، مدعومًا بتحالف يضم الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بزعامة السيد عبد العزيز الحلو جنوب كردفان، وحركة تحرير السودان بزعامة الأستاذ عبد الواحد محمد نور في دارفور، بينما مجموعة الحرية والتغيير ”المجلس المركزي“ ترفض علنًا بلسان، ويفاوض بعضها سرًا بلسان آخر. وحزب الأمة القومي يعلن رئيسه المكلف الفريق فضل الله بُرّمة موقفًا سرعان ما يمحوه بيان من الأمين العام تحت ذريعة أن رئيس الحزب يمثل نفسه لا الحزب. ومجمل المشهد السياسي للأحزاب أشبه بمسرح العبث الذي لا يحتمل الحسابات الموضوعية.

في ظل هذه الأوضاع، يجدر أن تبدأ ”الخطة ب“ عملها، فلحسن الحظ أن الأزمة التي تواجه السودان ليست وجودية بالعمق الذي يجعل الحل في كنف مساومات صعبة تتطلب طول النفس، فهي أزمة ”هياكل الحُكم“ ، بعبارة أكثر دقة ”المناصب“ و ”الكراسي“.

ومن الحكمة أن تعلن المكونات السياسية المدنية حكومة تنفيذية بأعجل ما أمكن، وتعيين رئيس وزراء ثم تشكيل وزاري بأقل عدد ممكن بحسب الحاجة لإدارة البلاد لا لإجلاس المتطلعين للسلطة.

والعقدة ستكون في المرجعية التي تستند عليها في إعلان مثل هذه الحكومة، والطبيعي في ظل الوثيقة الدستورية المنتهكة أن يعتمدها مجلس السيادة، لكن لأن الظرف الحالي لا يسمح بتسوية تعتمد مجلس السيادة بتكوينه الراهن، فالأولى أن تنشأ حكومة مدنية بمرجعية ذاتية، وأن تعلن أي مجموعة من الأحزاب والمكونات المجتمعية اعتمادها لمرشح لرئاسة مجلس الوزراء ثم تطلب منه تشكيل الوزارة بعدد محدود من الوزراء يشمل الأطراف الموقعة على اتفاق السلام في جوبا في 3 أكتوبر 2020.

عندما تفقد “النخب” فضيلة الخجل
نساء “القيادة التغييرية”
وهذه الحكومة المدنية المتوافق عليها، ستحظى بدعم داخلي ودولي يفتح الأبواب المغلقة، ويسمح بتعافي العلاقات الدولية لتجنب إجراءات الإغلاق المتوقعة، في شهر يونيو 2022. ولأن العلاقة مع مجلس السيادة بتكوينه الراهن ستظل عُقدة الأزمة، تتولى الحكومة التفاوض أصالة عن المكون المدني مع المكون العسكري للوصول إلى اتفاق خريطة طريق لاستعادة الوضع الانتقالي المنقلب عليه، والذي يكمل ما تبقى للفترة الانتقالية بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية وولائية.

ورغم تقاصر الوقت المتاح للخروج من عنق زجاجة الأزمة السودانية إلا أن الفرصة لا تزال في اليد، قبل أن تصبح في كنف المجهول، وعندها لن تجد الأطراف السودانية المتصارعة وطنًا تختصم عليه وفيه.

مقالات ذات صلة