حديث المدينة .. عثمان ميرغني .. القلب السليم
حديث المدينة .. عثمان ميرغني ..
القلب السليم
هل تعرف معنى (القلب)؟ بالتأكيد سيذهب تفكيرك إلى تلك المضخة المعجزة داخل صدر الإنسان.. التي تغذي الجسم بالدم ورحيق الحياة.. لكني هنا أقصد التعبير الذي ورد في القرءان الكريم أكثر من عشرين مرة.. يتحدث عن القلب.. هل يقصد القرءان القلب اللحم والدم الذي نعرفه نحن؟؟
في تقديري.. الإجابة لا..
(القلب) في القرءان مجاز يرمز لمجموعة أحاسيس ودوافع ونزوات تشكل القوام المعرفي لدى الإنسان.. وفي علوم الكمبيوتر نحن نسمى ذلك (نظام التشغيل).. (Operating System)..
الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الشعراء (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) .. ما معنى (القلب السليم) هنا.. بالتأكيد ليس له علاقة بتشريح جسم الإنسان..
القلب في القرءان غير محسوس أو ملموس.. لكنه (الموجه الأخلاقي) للفرد.. يتحكم في (النوايا) التي وصفها الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم بأن (إنما الأعمال بالنيات.. وانما لكل أمرئ ما نوى)..
يقول الله تعالى:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)الحج46.
(أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة (22)
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج (32)
(فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج46
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد24
وكثير من الآيات والأحاديث الشريفة تمنح القلب صفة المسيطر الأخلاقي والموجه للسلوك العام للإنسان.
لكن إذاً ما الفرق بين (القلب) و ( الفؤاد) في القرءان؟
هناك فرق كبير بين (القلب) و (الفؤاد).. وكثير من كتب التفسير القديمة والحديثة إما حاولت جاهدة افتراض أن الكلمتين مترادفتين لمعنى واحد.. أو تقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه كثيرون بتأويل المعني لصالح أعضاء جسم الإنسان كما في كلمة القلب، فيقول بعض المفسرين أن الفؤاد هو منطقة داخل عقل الإنسان وآخرون يقولون أنها داخل قلب الإنسان.
“الفؤاد” هو مجمع حواس الإنسان.. مركز جمع المعلومات من الأطراف (السمع والبصر والشم وغيرها).. في الآية (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) القصص (10)..أم موسى لما ألقت برضيعها في البحر أصابها خوف وجزع كبيرين.. شل تفكيرها تماماً.. صوَّر ذلك القرءان بقوله ( أصبح فؤاد أم موسى فارغاً) تعطل مركز تجميع معلومات الحواس.. فالحواس تظل عاملة.. العين تبصر والأذن تسمع.. لكن بلا فائدة لأن (مركز تجميع معلومات الحواس) أصابه الشلل من عظم الجلل.
وتكمل الصورة بقية الآية (لو لا أن ربطنا على قلبها) أي أن التثبيت هنا في عمق (نظام التشغيل) الذي يدير الإدراك المعرفي في الإنسان.. فالقلب هو مركز السيطرة المعرفي على الحركة والسكون.
و(القلب السليم) ..سليم لأنه حافظ على الفطرة في مكنونه الأخلاقي.. (نظام التشغيل) الرباني الذي جعله الله في منشأ الإنسان..
روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ).
كيف تروض قلبك ليصبح “سليما” بالمعنى القرءاني لسلامة القلب؟
مجمل الغايات في العبادات تحقيق هذا الهدف، فالصلاة والصيام والحج والعمرة وغيرها، تستهدف ترفيع المسلك الإنساني بصيانة المحتوى الروحي.
والمحك في هذه العبادات أن تحقق الهدف منها، وإلا أصبحت مجرد رياضة في الصلاة و جوع وعطش في الصيام مثلاً، فأثر الصلاة يظهر في “الدكان” لصاحب المتجر، لا في غرة جبهته، فالتاجر الذي يغش في بضاعته ذهابه للمسجد أشبه بذهابه الى “الجيم” للرياضة. وهكذا بقية الأعمال.