الكدمول” اخترعه سلاطين دارفور وخطفته العصابات
الكدمول” اخترعه سلاطين دارفور وخطفته العصابات
بقلم / جمال عبد القادر البدوي
“الكدمول” أو القناع الصحراوي، لثام كامل، يشبه العمامة السودانية المعروفة، لكن على نمط مختلف من حيث اللون وطريقة اللبس، إذ يحجب كامل الوجه عبر تغطية الفم والأنف، ولا يُظِهر سوى العينين.
وتفيد المعلومات المتداولة عنه بأن “الكدمول” نشأ في كنف سلاطين دارفور، ضمن ثقافة أزياء التعايش مع البيئة والتكيف مع تقلبات المناخ الصحراوي القاحل، شديد الحرارة والرياح الجافة، بخاصة عند الترحال والحركة الدائمة التي تتسم بها حياة البدو والرعاة. وشكّل “الكدمول” رمزاً ثقافياً يميّز معظم شعوب الصحراء الكبرى، لكن في الآونة الأخيرة، استخدمه المسلحون، وحولوه إلى بعبع يثير الرعب، تتخفى خلفه عصابات متفلتة، يصعب تحديد هوية أفرادها المقنّعين.
خطورة الكدمول
مع مرور الزمن، بدأ “الكدمول” يبرز بصورة لافتة، كزي محلي، مخصص لقهر الظروف المناخية، غير أنه في السنوات الأخيرة، ومع ظهور الحركات المسلحة في إقليم دارفور، شهد نقلة في طبيعة استخدامه كقناع حربي مقاتل، فلم يعد ذلك اللثام السلمي المخصص لقهر تحديات الطبيعة.
وبعد ظهور تهديدات عصابات الدراجات البخارية الملثمة، أصبح “الكدمول” يصنف خطراً.
وأدت تلك التطورات إلى تغيير الصورة الذهنية لـ “الكدمول”، وجعلته يرتبط بثقافة القتال والحرب والإجرام وعصابات النهب المسلح، ما حدا بالسلطات الحكومية على مستوى المركز والولايات، الى إصدار قرارات تحظر إرتداءه داخل المدن والمناطق الحضرية، ومنع استخدام الدراجات النارية ومصادرتها في حال ضبط أي مخالفة. آخر تلك الإجراءات، كان قرار والي شمال دارفور في الأسابيع القليلة الماضية، بمنع الكدمول إذ إن ارتداءه أصبح من وسائل زعزعة الأمن والاستقرار. وطالب بذلك معتصمو منطقة نيرتتي، في وسط دارفور أخيراً.
القناع الصحراوي
أما حول أصل الكدمول وتاريخ ظهوره وانتشاره، فتحدث إلى “اندبندنت عربية” أحمد أبكر برقو، حفيد السلطان عبد الرحمن فرتي في دارفور، موضحاً أن جده هو أول من لبس الكدمول، عام 1810، كعمامة كانت تُسمى قديماً بالكرمبيل، تُلف على شكل قناعٍ واقٍ من الحرارة والشمس والغبار، مشيراً إلى أنه “نمط من الأزياء فرضته ظروف الطبيعية القاسية، ذات البيئة الجافة والرياح الرملية ودرجة الحرارة المرتفعة في معظم فصول السنة، مثيرةً للغبار والأتربة، ما دفع بالجدود القدامى من قبيلتَي الزغاوة والقرعان إلى ابتداع ذلك اللثام، لتغطية الفم والأنف، ومنع الغبار وجفاف الوجه والفم، ورفع القدرة على تحمل لفح الشمس والعطش، في تلك المناطق الجرداء المقفرة”.
وأضاف برقو أن “الكدمول يُعدّ ملمحاً أساسياً لسكان المناطق الصحراوية الجافة، وزياً بيئياً لشعوب صحراوية عدة تعيش على امتداد منطقة حزام شمال الصحراء الغربية، جنوب السنغال وموريتانيا، ومناطق انتشار قبيلة الطوارق في كل من مالي والنيجر، وصولاً إلى شمال تشاد ودارفور، وحتى بعض تخوم كردفان”.
ثقافة وفولكلور
ورجح برقو أن يكون اسم “الكدمول” مشتقاً من لهجة “الزغاوة” المحلية، واعتمده كثيرون، إذ لم يكن سوى عمامة لا تحمل أي إشارات إلى العدوان أو التنكر، لكنه جزء من متطلبات البيئة الصحراوية، فسلاطين وأفراد قبيلة “الزغاوة”، كانوا يلبسونه للحماية من المناخ الصحراوي المعروف بالجفاف والعواصف الرملية.
وانتشر ارتداء الكدمول بين شعوب الصحراء البدوية وأشهرها قبائل الزغاوة والبديات والكوبيا، واقتصر استخدامه بحسب برقو، “على الاستخدام المدني السلمي، بعيداً من أي أغراض حربية أو قتالية، وأصبح أحد مظاهر الفولكلور الدارفوري، تتناغم وتنسجم ألوان الجلابية مع لونه، ويُصنع بأقمشة قطنية تُجلب من الجزائر وليبيا”.
وشرح برقو أن “الكدمول كان مسالماً، حتى تاريخ ظهور الحركات المسلحة بدارفور عام 2002، حيث بدأ يُستخدم بكثافة بواسطة مسلحي تلك الحركات، وتحول تدريجاً، ليصبح الزي المميز لهم، وارتبط منذ ذلك الوقت بقتال الصحراء وأجوائها، حتى صار رمزاً لحركات دارفور ومقاتليها”، مبيناً أنه وخلال الثماني سنوات الممتدة منذ 2002 وحتى 2010، تحول الكدمول تماماً، إلى وسيلة قتال وإجرام، وبدأت تستخدمه عصابات النهب المسلح للتخفي والتنكر، وساءت سمعته، ما دفع بالسلطات إلى حظر لبسه في المدن السودانية.
لكن لماذا ارتبط الكدمول بالحرب وثوار دارفور، الذين اتخذوه رمزاً وشعاراً؟ يجيب نهار عثمان نهار، الأمين السياسي لـ “حركة العدل والمساواة، جناح – دبجو”، في حديث لـ “اندبندنت عربية”، أن “الكدمول يُعتبر جزءاً من إرث وثقافة مجتمعات بعينها، مثله مثل العمامة السودانية، لكن نظراً إلى ظروف البيئة والمناخ في تلك المجتمعات اختلفت طريقة لبسه عما هو سائد في مناطق واسعة من السودان، فمعظم الرعاة يلبسونه حماية من الجفاف وسخونة المناخ، بخاصة أنهم يمضون جل أوقاتهم، متنقلين في تلك الظروف الصعبة. أما بالنسبة إلى حاملي السلاح، عناصر حركات الكفاح المسلح، ونسبةً إلى تحركهم في المناخ ذاته بسيارات دفع رباعي مكشوفة، فكان الكدمول يلائم ويتوافق مع طبيعة تحركاتهم ومهماتهم وأهدافهم”.
واستنكر نهار الربط بين ارتداء الكدمول وتهديد الأمن في دارفور، وتوصيفه كادأة لارتكاب الجرائم، بسبب استخدام بعض المجرمين والخارجين على القانون له، داعياً الحكومة إلى البحث عن الأسباب الحقيقية وراء التفلتات الأمنية، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإقرار الأمن وفرض هيبة الدولة، ونزع السلاح من أيدي المواطنين، وحصره بالقوات النظامية، ومعالجة جذور المشكلة الأساسية، بدلاً من اللجوء إلى منع الكدمول، في إجراء يشكل نوعاً من الاعتداء على ثقافة موروثة.
أنواع وألوان
في السياق، وصف حامد محمد عبدالله سبيل، أحد المقاتلين السابقين في “حركة تحرير السودان” بدارفور، في حديث إلى “اندبندنت عربية”، الكدمول بأنه “زيّ يلائم البئية الصحراوية، ويؤمّن حمايةً من طقسها المشحون بالحرارة والغبار والأتربة، تعود جذوره إلى تراث قبيلة الزغاوة وبعض الشعوب الصحراوية الأخرى، الذين ترتبط جذورهم بالقبيلة ذاتها، لكنه أصبح لاحقاً شعاراً لثوار دارفور، وسبقهم في ذلك ثوار تشاد في مطلع التسعينيات”. وأضاف أنه “بعد ارتباطه بثوار دارفور، بدأت تظهر أنواع أخرى من الكدمول، فهناك الكدمول العسكري بألوانه المميزة، وفق كل كتيبة أو فصيل، ويُلبَس أحياناً فوق الخوذة العسكرية، يقابله الكدمول المدني، البعيد عن الألوان العسكرية، كما ظهر الكدمول النسائي بألوانه الناعمة”.
واستطرد أن “الأمر تطور إلى أكثر من ذلك، إذ دعا ناشطون، إلى تخصيص يوم من شهر يونيو(حزيران) المعروف بالأتربة والغبار في كل عام، لاحتفال أهالي دارفور بالكدمول. وتُبذل مساعٍ لجعل أول أيام يونيو يوماً عالمياً للكدمول، يُحتفى به بشكل واسع بدافور، بهدف الحفاظ عليه كإرث ثقافي”.
لا يلائم المدن
وأعرب سبيل عن أسفه “كون الكدمول صار في الآونة الاخيرة، سبيلاً للتخفي والتنكر وانحرف استخدامه بواسطة عصابات النهب المسلح وقطاع الطرق، بحيث لم يعد بالإمكان التفرقة بين الثوار واللصوص، ما عزز دواعي خطورته على الأمن المجتمعي، وأدى إلى حظر استخدامه بالمدن”.
وحول مصير الكدمول بعد التوقيع المنتظر على اتفاق السلام الشامل، أوضح المقاتل السابق بحركة تحرير السودان، أن “الكدمول بطبيعته لا يلائم أجواء المدن، لكن الحاجة إلى لبسه تبدو ملحة في المناطق الخلوية الصحراوية، كما أنه تطور بظهور أنواع متعددة من حيث اللون والقماش المستخدم، وتحول في الآونة الأخيرة، بعد جائحة كورونا، إلى بديل للكمامة في عدد من المناطق حيث تنعدم الكمامات”.
وتشير المعلومات إلى أن الكدمول لم يعد محصوراً بقبيلة أو عرق محدد، بل تميز به تاريخياً وثقافياً، واشترك في لبسه، معظم قاطني المناطق الصحراوية الجافة من الأصول العربية أو الأفريقية، كنوع من الحماية في مواجهة قسوة الطبيعة في تلك المناطق.