ابراهيم عثمان يكتب .. ركوب الراس كمنهج تفكير
*أبراهيم عثمان يكتب-ركوب الراس كمنهج تفكير*
( وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ ) – المتنبئ
( إن تحويل جبل من مكانه أسهل من إزالة فكرة من عقل اعتنقها بغير دليل ) – مفكر غربي
تراكمت كوارث قحت، في الحكم والمعارضة، وأصبحت من الكثرة والوضوح بحيث لا تحتاج إلى أدلة أو إيضاحات، فأينما التفت تجدها تعلن عن نفسها بأبلغ وأفصح لغة، وتقتحم نظرك مباشرةً، بحيث يحتاج المرء إما إلى هوى غلاب أو إلى قدرة كبيرة على التعامي ودس الرأس في الرمال ليراها عيوباً بسيطة تسهل معالجتها، فما بالك برؤيتها كخير محض أو كتدشين للعبور .
تعتمد قحت الآن على من يتعامون عن الأدلة المبذولة، أو يقللون من أهميتها، أو يتجاهلون دلالاتها، أو تصل بهم المكابرة إلى حد لي عنقها لتشهد لصالحها، أو يفعِّلون نظرية الشماعة حتى فيما لا تصلح معه الشماعات أساساً، وكثير من كوارث قحت كانت تأتي من القرارات لا من التعطيل المزعوم لها، وإن كان ثمة تعطيل فهو ذلك الإيجابي الذي تعامل مع بعضها وأبطله أو خفف شحنة باطله، كالتعطيل الذي حدث للقراي ومناهجه على سبيل المثال . ومن كان هذا حالهم، لن يقنعهم دليل مهما كانت قوته، فالأمر عندهم ليس أمر حجج وأدلة، وإنما أمر هوى و”ركوب راس”.
كما احتاجت قحت إلى قحطنة/إفقار/ تسطيح كثير من المفاهيم والمعاني الإيجابية، وإلى إحداث خسارات دلالية فادحة بها حتى تتقزم وتناسب حجم أحزاب قحت وأغراضها الأنانية، كالمدنبة والحرية والعدالة وحكم القانون واستقلال القضاء والتحول الديمقراطي .. إلخ كذلك احتاجت إلى ما يمكن تسميته بالقحطنة المضادة، وأعني بها تجميل بعض القبائح، وحشوها بدلالات إيجابية، كركوب الرأس على سبيل المثال .
كان ركوب الراس إلى ما قبل القحطنة المضادة/تجميل القبائح يحمل معنى العناد، و”الدماكة” والإصرار البليد على ما اتضح خطؤه وعدم صلاحيته، لكنه بعدها أصبح عنواناً لجيل تريد قحت مصادرة عقله لصالحها، فكان الاحتفاء بتسمية ( الجيل الراكب راس )، وركوب الراس هنا لا يتعلق فقط بالخيارات السياسية الصفرية التي تناسب قحت، والعداء الأعمى لكل من/ما يقف في طريق هندسة كل شئ ليناسب حجمها الصغير وطموحها الكبير، وإنما بكل شئ، ليصبح عنواناً للتمرد الأرعن العنيد الذي لا يتنازل أصحابه حتى لمقتضيات الحقيقة والحكمة والصواب. لهذا أصبح ركوب الراس حالة تمرد شاملة على الدين وتعاليمه، وعلى المجتمع وأعرافه وتقاليده وتقريراته، وعلى الأسرة ودورها التربوي، وعلى المبادئ وإلزاماتها وقيودها، وعلى الديمقراطية وقواعدها، وحتى على الشوارع وزينتها، وقبل هذا كله على التفكير المنطقي وضوابطه. وهذا كله يناسب احتياجات قحت، ولهذا تراهن عليه بالكامل وترهن حاضرها ومستقبلها له .
أدى التسويق المكثف لركوب الراس بالمعنى الجديد إلى قحطنة/طمس الصورة التقليدية لفارس الحوبة وأخو البنات ومقنع الكاشفات، القوي في الحق، لكن المرن والمتسامح والشهم الذي لا يحرم حتى خصومه من شهامته ، لتحل محلها صورة الفارس الجديد/الراستا المتساهل في كل شئ إلا حراسة الباطل الصريح، لابس البرمودة، مفلفل الشعر، وازن الدماغ، المتشبه بأخته، والذي ينزعج، مثل المربي البروف محمد الأمين التوم، من نزوعها الفطري لتغطية ما ينكشف من جسدها، وصاحب التفكير “الإيجابي”، مثل محمد حسن البوشي، الذي يسمح لها بالسهر مع صديقها، ولا يتدخل حتى بالحد الأدنى في تحديد نوع صديق السهرة، فلا يقول لها (فلان دا كعب) أو كما قال البوشي، لينسحب هذا النوع من التفكير “الإيجابي” على أدواره السياسية وتقييماته وأحكامه، وليتم تنصيبه كفاعل سياسي أول، لا في الحكم، وإنما في تحديد من يحكم ويتمتع بالتسليم الكامل يحرسه ركوب الراس الذي سيشتغل لصالحه حراسةً لأخطائه ونفياً تاماً للآخر الذي يشاغب ويعترض، ويحرسه الغرب الإمبريالي المعجب بفارس الحوبة في نسخته الجديدة المستسلمة لأسوأ ما يأتي منه، والمعاندة لكل ما يقف في طريقه.
إبراهيم عثمان