بعد سحب فرنسا قواتها من مالي.. هل من عودة تلوح في الأفق؟
أعلن الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، سحب قوات بلاده من مالي، بعدما كانت توفر الحماية لمؤسسات الدولة المالية، خاصة في مدن الشمال، ضد الجماعات المسلحة التي تتخذ من أراضٍ واسعة في البلد نقاط تمركز لها.
وقرر الرئيس ماكرون إخراج قواته من مالي قبل يومين فقط، في قمة حضرها الرئيس السنغالي ماكي سال الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، والنيجيري محمد بازوم، والتشادي محمد إدريس ديبي، فيما فضل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني الغياب عنها وإرسال وزير خارجيته إسماعيل ولد الشيخ أحمد، تماشياً مع موقف نواكشوط من الحالة المالية المعقدة.
القرار الفرنسي جاء بعد خطوات قامت بها الحكومة المالية الجديدة التي تمخضت عن الانقلاب الذي قاده العقيد هاشم آصمي كويتا، والتي أسفرت عن مغادرة السفير الفرنسي لباماكو، وإغلاق السفارة الفرنسية لأول مرة منذ استقلال مالي عن المستعمر الفرنسي في العام 1960.
خطوة الانقلابيين في باماكو جاءت كردة فعل على إدانة باريس للانقلاب، وإيعازها للمنظمة الإقليمية الأكثر تنسيقا في المنطقة “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” (الإيكواس) باتخاذ إجراءات صارمة ضد الانقلابيين في باماكو، بالتزامن مع رفض الاتحاد الإفريقي لمقترح تمديد الفترة الانتقالية الذي أقره العقيد آصمي هاشم كويتا وقادة الانقلاب.
يراهن كويتا ورفاقه على أن إدانة الانقلابات لا تعني كل شيء، فأمام الانقلابيين في إفريقيا كل مرة فرصة ليصححوا وضعهم، عن طريق الدخول في مسار انتقالي يسلمون السلطة فيه لمدنيين منتخبين.
ربما المختلف في مالي، هو أن رفاق هاشم كويتا قرروا تدشين لعبة التحالفات شرقاً، ومنحَ موطئِ نفوذ لروسيا التي ضاق بها الغرب ذرعاً في منطقة الساحل، الأشد غلياناً في القارة.
“شبح فاغنر”
قوات “فاغنر” بعدتها وعتادها تُطل برأسها في مالي، وهو ما تابعته دول المنطقة باهتمام بالغ، تراوح بين الرفض المطلق، كما هو الشأن بالنسبة للسنغال وصقور (الإيكواس) والتحفظ الرافض بالطرق الدبلوماسية مثل الجارة الشمالية الغربية موريتانيا (تتقاسمان حدودا تزيد على 2000 كلم).
ودشن العقيد عاصمي كويتا ما سمّاه “حواراً وطنيا” نتج عنه قرارٌ بمد الفترة الانتقالية التي يتسيدُها إلى 5 سنوات “لوضع أسس صحيحة للدولة” على حد وصفه.
وقوبل القرارُ برفض واسع من الجيران، حيث دشنت دول “الإيكواس” عقوبات اقتصادية شديدة الوطأة وأغلقت حدودها مع مالي.
جيشت الحكومة المالية الشارع، وعاشت باماكو على وقع المسيرات الرافضة لـ”تجويع” البلد.
أوفدت منظمة الإيكواس (كانت موريتانيا عضوا مؤسسا فيها قبل أن تنسحب منها قبل 20 عاما) وفداً لنواكشوط لمطالبة الحكومة الموريتانية بالانضمام إلى العقوبات، وهو ما يعني، لو حدث، إحكام السوار على المعصم المالي.
لم يتأخر الماليون عن خطب ودّ نواكشوط أيضاً، فجلُ أرزاقهم وأقواتهم قادمة عبر الموانئ الموريتانية، فأوفدوا “كتيبة” وزراء إلى لطلب المساعدة الموريتانية في مواجهة المقاطعة الإقليمية الشاملة.
وأمسكت نواكشوط عصاها من المنتصف، وأكدت لمالي، البلد الحبيس جغرافياً، إنها لن تترك الجوع ونقص التموين يعصف بالسكان، وأن حدودها ستظل مفتوحة، فيما قدمت رداً دبلوماسيا لبقا لوفد الإيكواس، مفادُه أن “الأمن الغذائي ضروري للشعب المالي وليس بالضرورة دعماً للحاكم العسكري”.
المعضلة اليوم أن القوات الفرنسية سترحل من بلد ما يزالُ نصفه تحت سيطرة المجموعات المسلحة والمتمردين، مما يُرجح المنطقة لسيناريوهات مختلفة، أحلاها مُرٌ.
وضع صعب
الدب الروسي الذي استقدمه سادة باماكو لا يقوى على الوجود في منطقة صعبة وحارة، ويجوبها المسلحون الإرهابيون من تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما، إلى جانب المتمردين من الطوارق والعرب و”الفولان” الذين ينتظرون لحظة ضعف باماكو، لخوض معارك مؤجلة، والثأر لضربات سابقة.
السيناريو الأرجح أن يُكرر التاريخ نفسَه، وأن تجد الجماعات الإرهابية والمتمردون مناخاً مناسباً للإغارة على ما تبقى من مناطق نفوذ الحكومة المالية، وأن تشهد البلاد وضعاً اقتصاديا سيئاً، بفعل الحرب وعقوبات جيران سوف يغلقون حدودهم منعاً لتسرب الشرر إلى أراضيهم.
وفي لحظة معينة من قادم الأسابيع أو الأشهر، يُتوقع أن يذيع التلفزيون المالي بيانا يحمل (الرقم واحد) يؤكد فيه الجيش، كالعادة، بأنه صاحب المسؤولية عن المصلحة الأولى في البلد، وأنه قرر الإطاحة بالطغمة الحاكمة لإنقاذ الدولة، وسط ترحيب واسع داخلياً وخارجيا.
وحينها تكون فرنسا هي المُخلص من الإرهاب من جديد، ومن موقع قوة، لتملي شروطها، وتعود أقوى مما كانت، في منطقة كانت وستبقى، على ما يبدو، بحاجة إلى (الإليزيه) وقواته إلى أن يلفظ الإرهابُ نفسَه الأخير.