الشريف حسين الهندى الشهيد.. الحي3/2 .. بقلم د. علي ابراهيم
الشريف حسين الهندى الشهيد.. الحي3/2
بقلم : د علي ابراهيم
كان الإيمان بالقومية العربية وبرسالة العرب الأممية، من المسلمات الراسخات في فكر وقول وفعل الشريف حسين الهندي.
وقد لا يستطيع المرء أن يقرّ يقينا في إذا ما كانت تلك القناعة تلبية لشعور ذاتي، أو نبع وغرس وكبر بالتأمل والتفكر أو بإعمال البصيرة لموهبة حباه الله إياها، في كشف حجب لا يراها الفرد العادي.
وقد تكون لنشأته الدينية والصوفية واللتان من خصائصهما البحث والإستقصاء في العلوم والآداب والتاريخ.
أو قد يكون لإنتمائه للشجرة المحمدية، إذا ما وضعنا في الاعتبار ولوج بعض الإشراف معترك السياسة العربية، في الحجاز والأردن والعراق والمغرب، أما البعض الآخر، فقد نهج نهجا دينيا صرفاً، أثر تأثيرا بالغا في مجريات الأحداث في كثير من الدول العربية.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك، أثر دراسته في كلية فكتوريا بالإسكندرية، والتي جمعته بنخبة مميزة من أبناء دول عربية مختلفة، والذين تولوا فيما بعد مناصب مهمة ومؤثرة في دولهم، وكانت تربطه بهم علاقات راسخة وصداقات وطيدة ظلت راسخة حتى رحيله.
ومما لا شك فيه، أن فترة إقامته في القاهرة في منتصف ستينات القرن الماضي، وما صحبها من تواصل مع عدد من المفكرين والسياسيين العرب في مصر ولبنان وفلسطين وسوريا، جعلته يصقل تجربته ويبلور فكرته ويكسيها عظما ولحما.
وتلك الحقبة، كانت مهمة على الصعيد الاقليمي والعالمي، وشهدت نموّ وتطوّر الشعور القومي، وبروز رؤى ونظريات في المشرق والمغرب العربيين، تطالبان بحتمية الوحدة العربية، إذ كانتا تختلفان في الوسيلة، ولكن تلتقيان في الهدف.
وبينما كان العالم العربي يعيش حربا باردة من نوع آخر، وكان موزعا بين معسكري ما يسمى بالرجعية العربية – وهو يضم الأنظمة الملكية والأميرية وتقف من ورائهما أمريكا والدول الغربية – و معسكر التقدمية العربية – الذي كان يضم الأنظمة العسكرية الإنقلابية – يقف وراءهما الإتحاد السوفيتي.
وكان الشريف حسين الهندي، وبطبيعة الثائر والمتحرر يميل إلى المعسكر الثاني، من دون ان يتوافق معه لأنه كان ينظر إليه بحسبانه، يمثل أنظمة ديكتاتورية باطشة وقاهرة لشعوبها، وكان إيمانه بالديموقراطية لا يتزعزع أو يقبل التنازل تحت أي ظرف، وكان يعبر عنه صراحة حتى أمام قادة تلك الأنظمة، وكان يؤمن بأن الإنسان العربي، لكي يحرر وطنه ينبغي أن يتحرر أولا.
وكنت قد استمعت إليه أكثر من مرة، يتحدث بحسرة عن أفول نجم كثير من الأحزاب الديموقراطية الليبرالية في العراق وسوريا والمغرب العربي وكان يذكرها بالإسم .وكان يتعامل مع كثير من الأنظمة العربية والإفريقية، كواقع تفرضه الحالة من دون ان يتخلى عن مبادئه وقيمه.
وكان يقول لي دائماً: “نحن ثوار وأصحاب قضية نقبل الدعم ولكن لا نقبل أي شروط”. كان يرى ان العائق الرئيس أمام وحدة الشعب العربي، هو غياب الديموقراطية وهضم الحريات وإذلال الشعوب.
وفشلت محاولة أول دعوة إلى الوحدة العربية بين مصر والسودان، وأجهضت قبل ولادتها بعد استيلاء الجيش على السلطة في مصر، وحلّ الأحزاب السياسية وتعطيل الدستور والقوانين التي تحمى الفرد والمجتمع .
وعلى نفس المنوال، فشلت الوحدة المصرية/ السورية، لأنها كانت نتيجة قرار فوقي من السلطة الحاكمة في البلدين، لم يستشار أو يشارك فيه الشعب، وسرعان ما مارس النظام الوليد طغيانا واستبدادا قوبل بالرفض والمعارضة وبخاصة من الجانب السوري.
والمدهش فى الأمر، أن الصوت الأعلى من غيره للوحدة العربية، كان لتلك الأنظمة العسكرية المتحكمة، والتي خلقت فجوة كبيرة بينها وبين شعوبها، قادت إلى هزائم مريرة، وأدت إلى كوارث لا تزال الأمة تجتر مراراتها وتعاني من آثارها الوخيمة.
كانت هزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة عام 1967 صدمة كبيرة لكل العرب.
ذكر السيد محمد أحمد محجوب في كتابه: “الديموقراطية في الميزان”، أن مجلس الوزراء السوداني كان في حالة انعقاد عندما وصل خبر سقوط بيت المقدس في أيدي الإسرائيليين، وحينها لم يتحمل الشريف الهندي وقع الخبر وأجهش بالبكاء.
لكنه لم يستسلم لحالة الإحباط واليأس والإنكسار، ونهض شامخا متحملا مسؤوليته التاريخية، وكان أول ما قام به محاولاته لرأب الصدع وتصفية الأجواء بين الأشقاء .
تحرك في رحلات مكوكية بين القاهرة والرياض، في تنسيق مع رئيس الوزراء المحجوب، إلى إن تمت المصالحة بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل، وحلت مشكلة اليمن لصالح النظام الجمهوري، وعاد الجيش المصري إلى وطنه لمواجهة العدو الصهيوني.
وقام بدور رائد في التمهيد لمؤتمر الخرطوم 1967، ويشهد له التاريخ بأنه هو مقدم شعار “لا صلح لا إعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل”، هو الشعار الذي ميّز ذاك المؤتمر التاريخي، وبات يعرف بمؤتمر اللاآت الثلاث، والتي شكلت أساسا ثابتا لمسار السياسية العربية لفترة طويلة، إلى أن فرط فيها السادات بإتفاقية كامب ديفيد، وتبعتها بعد ذلك بعض الأنظمة المتخاذلة .
وكان هو مهندس سياسة وضع البترول العربي في المعركة، وقد كان أمضى سلاح هزّ أركان الأنظمة الإمبريالية ردحاً من الزمان .
وكان هو أيضاً، الذي حدد قيمة الدعم المالي لدول المواجهة من الدول العربية الغنية، والتي قبلته بكل أريحية.
عارض اتفاقية كامب ديفيد بضراوة، وكل مشاريع التسوية المخزية، وعلى رأسها القرار 242 والذي شكل نقطة البداية لتصفية القضية الفلسطينية، وكان موقفه مشهودا حين رفض القرار بإسم السودان، قائلاً: “هذا باطل، وإننا لا يمكن أن يهزم حقنا مهما كان ضعفنا بباطل الآخرين.
نحن لا يمكن أن نحقق شرعية ما لا شرعية له، ولا يمكن أن نتنازل عن قضية أمتنا الحضارية والقومية بمحض إختيارنا، لمجرد ان الأعداء أقوى منا.
وما الذي سنفقده إذا وقفنا ضدّ هذا القرار، ونحن الفاقدون لكل شيء، الأرض والعرض، وشعب بأكمله يلد ويترعرع ويموت في خيام اللاجئين.
لماذا نسجل هذا أمام العالم أجمع، وليس هناك كلمة واحدة في هذا القرار، يمكن أن يوافق عليها عربي، وليس فيه مكسب بل خسارة وعار وبيع لقضية قومية، وضياع لكل الأجيال القادمة من أمتنا، وحرمانها حتى من حقها الشرعي في الحياة والنضال والبقاء”.
وكم كان ألم الشعب السوداني عندما جاء إنقلاب (جعفر) نميري، معلنا بصوت رئيس وزرائه بابكرعوض الله في أول بيان بقبول القرار 242، وحينها أدرك شعبنا الذكي وبحسّه السياسي العالي وبفطرته السوية، أن وجه السودان قد مسخ وأن دوره الرائد تحوّل إلى تابع.
كانت القضية الفلسطينية حاضرة عنده على الدوام، وكان يطلق عليها قضية العرب المركزية، ولا يكاد يخلو خطاب أو حديث من التطرق إليها، وظل مدافعا عنها في كل المحافل الدولية، من غير انحياز إلى فصيل دون الآخر، وبنى وطور علاقات مميزة ومتقدمة مع معظم الفعاليات الفلسطينية، ووجه كوادر “الحزب الإتحادي الديموقراطي” بالتنسيق مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، لدعمها ومساندتها، وكان على تواصل مع معظم قادة تلك الفصائل.
لقد كان سباقاً في دعم العراق في حرب الخليج الأولى، وبنظرته الثاقبة أدرك خطر نظام الملالي في إيران على الدول العربية .
وخطابه الذي ارتجله عبر التلفاز العراقي داعما للعراق، يعتبر حقاً من المعلقات في الأدب السياسي والفصاحة اللغوية، وفي الثبات على المبادئ والقيم، وكأنه كان يقول لأمة العرب إذا سقط العراق ستؤكلون كما أكل الثور الأبيض.
وها هي إيران تتمدد، وتتبختر في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وعينها على البحرين وشرق المملكة العربية السعودية.
بعد رحيل الشريف حسين، كتب عنه كتاب وساسة ومفكرون وصحفيون، وأختم بما قال عنه الزعيم معمر القذافي: “إن فقد ليبيا لا يقلّ عن فقد السودان. وان مساعيه وحرصه على رأب الصدع في الصف العربي، وأن محاولاته المضنية في هذا المضمار، وضعته ووضعت القضية السودانية فوق الخلافات”.
وقال عنه أيضا الأستاذ ميشيل عفلق: “لقد نذر المناضل الشريف حسين نفسه من أجل الديموقراطية ومقاومة إتجاهات الإستسلام، ورفع صوت شعبنا المجاهد في السودان، منتصرا للعروبة والتحرير والتقدم”.
هكذا كان الشريف حسين، مناضلاً ومبادراً حكيماً، يعرف كيف يحسن القيادة، ويسمو فوق الخلافات والصراعات.