من مصر .. ذاكرة التاريخ “التجارة الخسرانة” للثأر..
حوادث بشعة في تاريخ الصعيد قبل مذبحة أبوحزام الدامية
والثأر في ذهنية الصعيد عادة مذمومة وقبيحة، رغم تواجد الظاهرة منذ القدم، حيث يؤكد الدكتور سيد عوض فى دراسته عن الثأر “صلح بيت علام” أن الصعايدة يرددون أن “الثأر تجارة خسرانة دائماً، وعفا الله عما سلف، ويا بخت من قدر وعفا”، حيث يؤمن الصعايدة بالمسئولية تجاه هذا الدمار الذي يحل عليهم ما داموا قرروا القتل والانتقام، مؤكدا أن الثأر مرتبط بخراب البيوت وعدم الاستقرار، وعدم إعطاء الإنسان الفرصة للنجاح أو التقدم؛ بسبب حالة التربص بين المتخاصمين، مؤكدا أن حق الأخذ بالثأر هو أول أساس قام عليه حق العقاب على جريمة القتل في العصور البدائية، وكان هذا العقاب يأخذ طابع الانتقام الفردي، إلا أنه مع تطور المجتمع الإنساني بقيام نظام العائلة، أصبح توقيع العقاب راجعاً إلى رب العائلة، وعندما تحالفت العشائر وانضمت إلى بعضها البعض وتكونت القبائل أصبح توقيع العقاب يأخذ طابع الانتقام الجماعي، فأي اعتداء على فرد يعد اعتداءً على جميع أفراد القبيلة التى ينتمي إليها هذا الفرد، وكثيراً ما كان الطرف المنتقم يتجاوز حدود الاعتداء فيكون ذلك سبباً لانتقام سبباً لانتقام جديد من القبيلة الأخرى، وهكذا يتتابع الانتقام والثأر من الجانبين فيما يشبه الحلقة المفرغة.
ومع تطور المجتمع الإنساني بقيام نظام الدولة، حيث تقضى الدول على الفوضى ومظاهر عدم النظام الذي يحقق فيه الجميع أهدافهم، ومن ثم فإنهم يتركون لها مسئولية ضبط المجتمع وتنفيذ العقاب، وبنشأة الدولة أصبح توقيع العقاب يقع على عائق الدولة من خلال أجهزتها المختلفة، إلا أنه على الرغم من ظهور الدولة، وعلى الرغم من اتفاق كافة الأديان السماوية على أحقية ولى الأمر في القيام بعملية القصاص من القاتل في ضوء القوانين التى تتفق مع الديانة الرسمية لها، إلا أن ظاهرة الأخذ بالثأر ما زالت سائدة في المجتمع المصري بالصعيد تحت تأثير سيطرة قيم العصبية القبلية، والطقوس والعادات، والتقاليد المتعلقة بالثأر والانتقام والتي كانت سائدة قبل نشأة الدولة.
ويحمل الثأر في الصعيد قواعد مُنظمة له رغم بشاعته، وفى القتل المجهول أي المقتول دون الاهتداء على قاتله يتم في الفري المغلقة بقنا طقس تحرك النعش، حيث يتم ترديد الفواتح ويُترك النعش يتحرك وحين يقف في مكان أو أمام منزل يكون هو القاتل في اعتقادهم، وهو الطقس الذي أوقع ضحايا أبرياء أيضا في وقائع سجلتها المحاضر، بالإضافة أن الثأر مُحرم في كل الأديان السماوية، ومنها الإسلام الذي شدد على حرمة الدم للإنسان بعيدا عن معتقداته الدينية.
ويوضح السيد عوض أن الأحاديث الدينية أوصت بعدم الخصومة والفُجر فيها ،حيث أكد الحديث الشريف أنه “لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام”.. رواه الشيخان، و”تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال انتظروا هذين حتى يصطلحا، انتظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا”. رواه مسلم عن أبى هريرة، والحديث الشريف “ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟، إصلاح ذات البين”.
وأوضح سيد عوض أنه على الرغم من أن ظاهرة الأخذ بالثأر ترتبط بعالم الذكورة دون الإناث، إلا أن الواقع والمشاهدات الميدانية في الصعيد، تشير إلى أن للإناث دورا فائقا في التحميس والتشجيع والعمل على تدعيم الثقافة الثأرية التى هي في الظاهر ثقافة ذكورية، فالمرأة هنا تتخذ موقفا مخالفاً فهي تدافع عن الثأر وتحض عليه، فالأمهات يدفعن أبنائهن إلى الثأر، ويعتبرن أن من يفرط في ثأره يفرط في شرفه وعرضه، ومن ثم فإن حزنهن يتزايد على فقد الرجال، بل إنهن يبالغن في التعبير عن هذا الحزن حتى يأتي الثأر ليفرج عنهن، ويبعث في نفوسهن الراحة، ويمكن أن يفهم هذا التناقض فى موقف النساء في ضوء الدور الذي تلعبه المرأة في السيطرة على العالم الخفي للحياة، ويخلق لها نفوذا داخل هذا العالم، وربما يكون ذلك تعبيراً عن المقاومة السلبية لعالم الذكورة وسطوته من أهم أنظمة القوانين العرفية للسيطرة على حدة الثأر في الصعيد قديما ، كان معمولا به التهجير للقاتل وأهله عن القرية مسقط رأسه لمدة 100 عام ، وهو نظام التخلي عن الشخص مرتكب الاعتداء.
ويؤكد الدكتور سيد عوض في دراسته عن المصالحات الثأرية أنه يعد نظام التخلي عن الشخص مرتكب الاعتداء من أقدم النظم التى اهتدى إليها العقل البشرى منذ أقدم العصور لتجنب دائرة الثأر الجهنمية، حيث كان يتم من خلال هذا النظام تسليم الجاني إلى قبيلة المجني عليه؛ لكي تقتله أو تسترقه تعويضاً لها عن الضرر الذي أصابها، ويطلق على هذا النظام في صعيد مصر نظام القودة، وهو له عدة معان منها اقتياد القاتل وأهله من بلد القتيل مدة لا تقل عن دهر أي مائة عام ، وقد تطورت في عصرنا الحالي بنظم معينة وقواعد معينة بعيدة عن التهجير.
وتنبع أهمية تنفيذ قرارات مجلس الصلح أنها تضمن لأولياء الدم حقوقهم وتمنحهم شرفها الذي يفترض أنه انتهك في حادث القتل الثأري؛ لذا فهي لابد أن تكون جماعية، حيث يشترط أن يتم الصلح أمام جميع الأفراد من القرية والقرى المجاورة، والقيادات ورجال الدين الإسلامي والمسيحي ، وأن تكون علنية وليست في مكان مغلق، وأن تحمل القسم الذي يكون بعدم الرجوع للخصومة، بالإضافة لتوثيقها في أقسام الشرطة، أو وجود الشهود الذين يمضون على وثيقة الصلح.
وفى القودة يمشى القاتل مسافة من 500 متر إلى 1000 متر في شارع رئيسي في القرية ويمشى بجواره رجل دين وعضوان من النواب، وخلفه مأمور الشرطة، ويستمر المشي في شوارع القرية، مادا كفنه (قطعة من القماش الأبيض) فوق يديه الممدودتين للأمام وعلى الجانبين الضيوف من العائلات الأخرى في القرية والقرى المجاورة حتى يصل إلى ولى الدم وهو غالباً ما يكون شقيق القتيل أو والده أو عمه ، وهنا تقف عائلة الضحايا بكافة رجالها ويتقدم القاتل إلى كبيرهم مقدما كفنه ويقسم بأنه قد عفا عنه، وتبدأً بعد ذلك مراسم التوجيب وتقبل العزاء في الضحايا، حيث أن نظام القردة يُرضى أهل القتيل ويحفظ مكانتهم وكرامتهم بين ذويهم من ناحية، كما يحمى القاتل وأهله وينجيهم من موت محقق.
ويؤكد سيد عوض أنه يعد نظام القودة بمثابة تأكيد لأولياء الدم على مكانتهم في العلن، حيث يعد نظام استبدال الاعتداء بالتصالح هو أحد النظم التى اهتدى إليها العقل البشرى منذ أقدم العصور لتجنب دائرة الثأر الجهنمية، ولقد كان هذا النظام مبشرا بنظام الدية الذي كان في أول الأمر نظاما اختيارياً، وهذا يعنى أن احتمال الحرب ظل قائماً طالماً لم يحدث اتفاق بين القبيلتين، إلا أنه مع زيادة نفوذ وهيمنة سلطة القبيلة وتماسك عشائرها اتجهت سلطات القبيلة إلى جعل نظام الدية يأخذ طابعاً إلزاميا حيث يلتزم جميع أفراد القبيلة فئ مساعدة المجني عليه وعشيرته في الحصول على الدية، ويقصد بـ”الدية” المبالغ النقدية ذهباً أو عملة، والتي يقدمها القاتل أو الجارح إلى المجني عليه أو ورثته وهى تعويض عن الخطأ الذي ارتكبه القاتل ضد صاحب الدم.
والدية جزاء يدور بين العقوبة والضمان فهي كالغرامة في الفقه القانوني، ويجوز تحصيل الدية من التركة فيتأثر بها الورثة، وهى وتوقع على مرتكب جريمة القتل العمد في حالة سقوط القصاص بهدف ردع القاتل والإصلاح من شأنه.
وأوصي سيد عوض في دراسته بضرورة تخلص الصعيد من ظاهرة الثأر، مع إقناع الأهالي بأن القصاص يجب أن يتم عن طريق السلطة الحاكمة، وأن تنفيذ القصاص بأيديهم فيه مخالفة لشرع الله، وضرورة إقناع الأهالي بالتعاون من أجهزة الشرطة من خلال اتهام القاتل الفعلي حتى تسير الإجراءات الشرطية في اتجاهها السليم، مع ضرورة توضيح الفرق بين القصاص والانتقام فالقصاص بيد السلطة الحاكمة ومطالبة ولى الدم بذلك تلتزم فيه المماثلة فينزل بالقاتل حكم الموت مثلما هو أنزل الموت بالمجني عليه، أما الانتقام فهو يختلف عن القصاص حيث أن المنتقم لا يتقيد بالمساواة بين فعل القاتل وبين العقاب الذي ينزل عليه، فقد يعاقب غير القاتل فيقتل مثلا أباه أو أخاه أو أي شخص من بني عشيرته، مع العمل على توضيح مدى عقم أعراف الأسر والقبائل في صعيد مصر فيما يتعلق بالثأر وأن الالتزام بها فيه مخالفة لشرع الله فضلا عما تسببه من دمار سيؤدى دون شك إلى التهام أرواحهم وأرزاقهم وتشعرهم بدم الأمان والاستقرار لهم ولأجيالهم اللاحقة.
كما أوصي بضرورة تكاتف جميع مؤسسات المجتمع بدءاً من الأسرة وخاصة المرأة والمدرسة وجماعات العمل وجماعات النادي والمقاهي ووزارات الشئون الاجتماعية والأوقاف والإعلام والجامعات في توضيح أن الثأر لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، ويجب على الدولة أن تولى قدر عنايتها بهذه الظاهرة من خلال اهتمامها بصعيد مصر، مع القضاء على الجهل من خلال محو الأمية الهجائية والثقافية والدينية لأبناء الريف بشكل عام والصعيد بشكل خاص، ونشر دور العلم التى تولى اهتمامها بغرس قيم الرحمة والتسامح والعدل والتكافل بين أبناء الوطن الواحد ،وتشجيع أبناء الريف في صعيد مصر على الانخراط فى الأعمال التى تدر عائداً مادياً سريعاً سواء كانت أعمال خدمية أو إنتاجية الأمر الذي يفتح أبواب الرزق للجميع، حيث أن الفقر يولد الكفر. مع ضرورة أن تتضمن المناهج التعليمية بدءاً من مرحلة الحضانة كيفية غرس ثقافة الحوار والمناقشة ونبذ أساليب الاستعلاء والكبرياء من ناحية وتعلم وتثقيف الشباب مخاطر الإجرام بشكل عام وجرائم الثأر والمخدرات والسلاح بشكل خاص من ناحية أخرى.