الدكتور حسن عابدين والوجه الأخر للإستعمار البريطاني في السودان .. حمدالنيل عبدالقادر
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور حسن عابدين
والوجه الأخر للإستعمار البريطاني في السودان
حمدالنيل عبدالقادر
في الثلاثين من ديسمبرمن عام 2020 م، رحل الدكتور حسن عابدين من دنيانا الفانية ، قبل أن يكمل ما بدأه من حوار حول الجوانب المضيئة للوجود البريطاني في السودان , و الذي افتتحه بكتابه “سودانيون و إنجليز…الوجه الإنساني لعلاقة تاريخية”.
في فبراير من عام 2017م، تشرفت بأن أكون على منصة المعِقّبين يوم تدشين الكتاب، إلى جانب البروفيسور عبد الملك محمد عبد الرحمن, رئيساً للجلسة, و الأستاذ السفير جمال إبراهيم معقِّباً.
كنت ألتقي الدكتور حسن عابدين بعد ذلك عندما كان يعكف على جمع مادة لكتابٍ آخر، لا أتذكر عنوانه هنا، ولكن على ما أذكر كان يدور حول أسر بريطانية عريقة في مجال التعليم والتربية والسياسة، ساهم بعض أفرادها في مجالات مختلفة في السودان .
أتذكر أنه طلب مني صوراً وبعض المعلومات عن آل “هودجكن” المعروفين بباعهم الطويل في العلوم و التربية، في بريطانيا وفي السودان.
أرادت مشيئة الله، أن لا يكتمل ذلك العمل, ولكن كنتُ أرى أن الدكتور حسن عابدين، قد فتح باباً أرجو أن لا يوصد، لتقييم تلـك الفترة، تقييماً موضوعياً. ومساهمة مني في فتح ذلك الباب مرّة أخرى، رأيت أن أعيد ما أبديتُ من رأي عندما عقبت على الكتاب يوم تدشينه، وللقارئ الحق في أن يتفق مع أو ينتقد ما كتبت.
التعقيب:-
أبدأ من حيث انتهى الكتاب، فقد ختم المؤلف كتابه بالفقرة التالية :
( ولكننا – نحن السودانيين- بعثرنا الميراث الذهبي ولم نحفظه, و أهدرناه و لم نطوره, فبقي شتات ذكريات ونوستالجيا وحسرة على السودان الذي كان قرَّة الأوطان الأفريقية الجديدة وأملها, فضاق علينا اليوم وضقنا به وقد تراجع وانحسر, بل تمزق وانشطر.
وعن مثل هذا الذي حاق بالسودان، قال أبو الطيب المتنبي :
مصائبُ شتّى جُمِّعـت في مصيبةٍ
ولم يَكِـفـها حتى قَـفـتها مصـائـبُ
إنتهى التاريخ وتاريخ الإستعمار البريطاني في السودان عام 1956م وبقيت الدروس والعبر لمن لم يعتبر وكما في مرآة التاريخ، نرى أنفسنا لعلنا نرى في مرآة الحاضر مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة). إإنتهى الإقتباس.
يا لها من حقيقة صاعقة … بعد ستين عاماً من نيلنا إستقلالنا و سيادتنا نكتشف أننا في متاهة … فيصيبنا الذعر و الهلع و تتملكنا الحسرة.
يقول علماء النفس أن الإنسان إذا ما قابله واقع مرير أو مشكلة ما، من الطبيعي أن يمرّ حلِّ هذه المشكلة بمراحل، تأخذ الواحدة بأهداب الأخرى حتى تنجلي المشكلة.
أما إذا قبع الإنسانُ في إحدى المراحل مدَّة أطول، فذلك مرضٌ يستوجب العلاج.
أولى هذه المراحل، هي مرحلة الإنزعاج (Panic)، تعقبها مباشرة مرحلة الجمود (Inertia)، ثم مرحلة فهم المشكلة والتعايش معها (Coping)، ثم مرحلة محاولة حلّ المشكلة (Striving)، وبالإجتهاد وقوة التصميم، يصل الإنسان للحل (Mastering).
أين نحن الآن ؟ … من الواضح جداً أننا ما زلنا في مرحلة الجمود (Inertia).
We are unable to pull ourselves by ourselves.
أي ما زلنا عاجزين عن انقاذ أنفسنا بأنفسنا..
إذاً ما هو السبب ؟؟!!
إن المتتبع لسلوكنا السياسي والإجتماعي منذ فجر الإستقلال، يلاحظ أن هذا السلوك لم يضعنا في الطريق الصحيح لبناء دولة حديثة، تستفيد من تجارب الماضي، بل أن ذلك السلوك كان تقريباً، صراعاً من أجل السلطة للوصول لموارد الدولة وفرصها، المادية منها والمعنوية.
وللخروج من هذا المأزق، لابد من إعادة قراءة ودراسة تاريخنا السياسي، خلال فترة تعتبر من أهم فترات تاريخنا الحديث، وهي الفترة الممتدة من عام 1898م وحتى عام 1956م، ثم انعكاسات هذه الفترة على المرحلة التي تلتها من عام 1956م وحتى الآن.
الشئ الأهمّ في هذه القراءة، أن تكون موضوعية وعلمية , وأن لا توظف لمحاكمة أو تجريم أحد، وأن ننأى بها عن إسقاطات نظريات الآخرين على واقعنا, وأن يكون هدفنا ومعيارنا الذي نتوافق عليه، هو بناء الدولة السودانية الحديثة ذات المهابة والسيادة، القائمة على المعرفة والعلم والتكنولوجيا والعدل والإدارة الجيّدة، وأن تكون لها القدرة على صون وحدة ترابها، وحماية مواردها وترقيتها، وتطوير انسانها مادياً و روحياً و حضارياً.
وإذا ما توافقنا على ذلك، يجب أن نسعى على أن نلتقط كلّ ما يساهم في بناء هذه الدولة , من أي مكان كان أو من أي جهة كانت، دون تردّد، وأن تكون البراجماتية والمصلحة الوطنية، هي سبيلنا وغايتنا، وأن يكون وعينا حاضراً بما حولنا من علاقات دولية، بعيداً عن العزّة الزائفة والعواطف غير المجدية والعنتريات التي ما قتلت ذبابة . علينا أن نتحرر من عقابيل العوالم الإفتراضية التي لا تؤدي إلى نتيجة .
لا تحتاج لأن تكون شجاعاً لتكتب عن تاريخ إدارة أجنبية، سلبتْ البلاد سيادتها ردحاً من الزمان، ولكن لابد من أن تكون شجاعاً عندما تكتب عن الجوانب المضيئة في تاريخ تلك الإدارة، والتنبيه لالتقاط الجيد منها، والمحافظة على إرثها المادي الذي هو في الحقيقة تاريخنا و بعضاً من إرثنا. ليس ذلك وحده ، بل أن نسعى لخلق علاقة دائمة مبنية على النديه و المصلحة المشتركة .
دارتْ بخلدي تساؤلات وأنا أقرأ الكتاب، حول الأسباب التي دفعت المؤلف لكتابة هذا الكتاب .
أهو إعجاب المغلوب بالغالب، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته؟
أهو أثر معايشة الكاتب للأوساط البريطانية، عندما كان سفيراً للسودان في بريطانيا خاصة مع من تبقى من الإداريين البريطانيين الذين عملوا في السودان والذين ربطته بهم علائق و صداقات؟
أم لأنه أستاذٌ للتاريخ الأفريقي بَصُرَ بما لم يُبْصره الآخرون, شأنه شأن البروفيسور الكيني “علي مزروعي” في تأملاته في الحالة الأفريقية, والتي صاغها في كتابه “الأفارقة و موروثهم الثلاثي ” Heritage Africans: A triple
إلى أن أعلنها ذلك المفكر داوية بعد ذلك، بأن الأفارقة غير جديرين بإدارة أوطانهم؟
توقفتُ عن التساؤلات عندما وجدت الإجابة الأقرب تكمن في شخصية المؤلف نفسه، والتي برزت واضحة في سيرته الذاتية التي أودعها كتابه ( حياة في الدبلوماسية والسياسة) … الشخصية الوسطية, الموضوعية والبراجماتية التي تسعى لتنفذ إلى الحقيقة.
إنّ الوسطية مرادفة للحكمة، والفضيلة مزية بين رذيلتين كما يقولون.
وعندما أكملت قراءة الكتاب شعرت أن المؤلف أراد أن يفتح باباً لشئٍ كبير كانت هذه فاتحته، وأنّ هذا الكتاب ستعقبه كتبٌ أخرى للمؤلف، أو لغير المؤلف للتوسّع في الموضوع الذي لمسه لمساً , وهو إعادة قراءة تجربة الإستعمار البريطاني للسودان لا لشئ سوى محاولة إصلاح الحال.
أستعير هنا بعضاً من شجاعة المؤلف، لأتفق معه في كثير من ما رمى إليه وأضيف، فالكتاب يغري بالاستطراد, ولعل استطرادي يكون حافزاً للحضور المستمعين لمزيد من النقاش والتفكير.
أولاً يجب أن نعترف (و الإعتراف فضيلة سبقنا إليها الغرب)، أن إقليمنا هذا ظل بعيداً عن مراكز الحضارة زماناً طويلاً، سواء كانت الحضارة الغربية أو الحضارة الإسلامية أو غيرها من الحضارات.
لم نتعرّض تعرّضاً كافياً للتجارب الكفيلة بأن تخلق وعياً يدفعنا لبناء دولة حديثة (Exposure). لم نسع للتجربة، وعندما سعت إلينا، لم نستفد منها. أقصد أن الوجود البريطاني كان فرصة عرضّتنا لكثير من التجارب الانسانية، لم نكن لنتصورها. يجب أن نعترف أيضاً أن السودان بواقعه المُعاش في القرن التاسع عشر من أوله إلى أخره، ما كان لينجو من الإستعمار, فقد كان عليه حتماً مقضياً ، شأنه شأن كل الدول الأفريقية.
كانت سمة ذلك العصر التكالب على الموارد والمصالح بوجه عام. حتى المهدية حشدت الجيوش لغزو وإحتلال الحبشة ومصر، ولو قُدر لها النجاح ، ما كان يمكن تسمية ذلك بغير كلمة “إستعمار”.
أكاد أقول أن نزعة الاستعمار غريزة في النفس البشرية قمعاً وقهراً مغلفة بشعارات لإقناع المُسْتَعْمَر(بفتح الميم) بقبول واقع الحال, و أن مصدر الإستعمار هو الذاتية، والذاتية مبعثها صراع كلّ المخلوقات من أجل البقاء.
أي دولة يسعدها جداً ضعف الدولة لأخرى، لا سيما لو ارتبطت معها بمصالح (حدود- موارد- مياه و خلافه)، إذ الواقع يحتم علينا وضع مفهوم الإستعمار في سياقه الصحيح On its right context. ، وإذا لم تأبه أيّ أمّة بتحصين نفسها، فقد تترك فراغاً لابد من أن يمتلئ بقهر الآخرين وقمعهم والاستعلاء عليهم بشتى الصور، ويبقى الذنب ذنب هذه الأمة حيث لا تجدي الشكوى والشتيمة.
وإذا اصابت مصيبة الإستعمار أمة في بداية تكوين قوميتها و في بدايات بناء دولتها و الوعي بسيادتها، فإن الصدمة حرية بأن تجعلها تسعى بنفس أسلوب القوة الذي اتخذه المستعمر للبحث عن طريق لنهضتها، وهذا لعَمْري ما لم نلتفت إليه لضعف الوعي فينا.
هُزِمنا بقوة الآلة عند دخول الأتراك أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وتكرر نفس الشئ عند دخول الإنجليز نهايات ذلك القرن , و لم نفكر في كنه هذه الآلة ولا العلم الذي أنتجها، وذلك بسبب التخلف التاريخي الذي ورثناه.
ثمّة علاقة بين الإستعمار من جهة والقومية والدولة والسيادة من جهة أخرى. يصعب بناء دولة حديثة على قومية غير محددة المعالم وبالتالي يأتي مفهوم السيادة والوطنية والإحساس بالوطن منقوصاً، لا يحسّ به الأفراد عندما يسلبه منهم المستعمر.
عندما دخل الأتراك السّودان، لم يكن هناك شعور بالقومية السودانية بالمعنى الحديث، وبالتالي لم تكن هناك دولة بالمعنى المفهوم للدولة. كانت هناك أشكال من أنظمة حكم تقليدية تتفاوت في أشكالها و معانيها.
عندما قاوم الشايقية الأتراك لم تكن تلك المقاومة دفاعاً عن القومية السودانية، ولا دفاعاً عن الدولة السودانية وسيادتها, ولكنهم قاوموا الأتراك حين طلبوا منهم تسليم أسلحتهم وخيولهم والإكتفاء بالعمل كفلاحين لصالح المستعمر. وعندما رُدت إليهم أسلحتهم وخيولهم وأعراضهم، انخرطوا في الجيش التركي الغازي، ودخلوا معه جنوباً فاتحين.
كذلك كانت مقاومة المك نمر, لم يقدم على ما أقدم عليه، إلا بعد أن طلب منه إسماعيل باشا ما لا تطيقه القبيلة – و ليس السودان- من مال وأنعام ورجال، وما صحب ذلك من إساءة شخصية للمك نفسه أمام أهله وعشيرته.
أما الثورة المهدية فقد قامت على أثر غليان القبائل و الأفراد من الظلم الذي حاق بهم ، ولم يكن المحرّك الأساسي هو بناء دولة سودانية، وإنما كان الهدف ثورة دائمة تنتظم كلّ العالم الإسلامي، إن لم يكن العالم أجمع. كان ذلك في مخيلة محمد أحمد المهدي ذي الخلفية الدينية. أما على المستويات الأخرى، فقد كان شعوراً قبلياً عضوضاً ممزوجاً بالإسلام الشعبي ومصالح وطموحات الأفراد كان الإنقسام في الجبهة الداخلية واضحاً لدرجة اللجوء للاستقواء بالأجنبي، ذلك الإستقواء الذي أصبح ثقافة دائمة في الصراع حول السلطة إلى يومنا هذا.
دخل المصريون والإنجليز السودان، ولم يكن الإحساس بالقومية والسيادة قوياً بالدرجة التي تجعل التناقض بين المحتلين والسودانيين تناقضاً رئيسياً، والإختلافات الداخلية تناقضات ثانوية.
إن عدم الإحساس بالقومية و السيادة امتد لزمن طويل. انظر لهذا الدليل القاطع في مقال كتبه محمد أحمد محجوب في مجلة النهضة عام 1932م, حيث قال:
(( ليس أدعي إلى الألم و الإبتئاس من فقدان الشعور القومي في بلد تتوفر فيه كل دواعيه, و هذا البلد هو الأقليم المنكود الذي نسكنه , و بيننا علاقات الموقع الجغرافي و الجنس و الدين و اللغة, و ليس لنا من الشعور ما يجعلنا نحس هذه الوحدة و نحترمها)).
كان ذلك هو حالنا , أما حال الشركاء في الحكم فقد كان مختلفاً كل الإختلاف . كلٌ له أهدافه و مراميه, التي كانت متناقضة كل التناقض.
كان هدف المصريين إستعادة إستعمار السودان لخير مصر فقط، مواصلة لأهداف محمد علي باشا التوسعية, وما زالت بقايا هذه الأهداف تداعب خيال المصريين إلى الساعة. وإذا قرأتم كتاب السودان في البرلمان المصري خلال عام 1924م و عام 1936م للدكتور يواقيم رزق مُرْقُص، لوجدتم الحجة الدامغه من ممثلي الشعب المصري، دون مواراة أو دبلوماسية.
كانت أهداف بريطانيا إبعاد مصر والأمة العربية من الرابطة الإسلامية التركية لخدمة استراتيجياتها في الشرق الاوسط، وإبعاد فرنسا من منابع النيل، وإيقاف بلجيكا وإيطاليا من الزّحف نحو السودان، بقصد السيطرة على أفريقيا والبحر الأحمر المؤدي إلى الهند، ثم تأمين مصالحها في مصر.
لم يكن هدف بريطانيا استنزاف موارد السودان بالدرجة الأولى ، و ما مشروع الجزيرة إلا استثمار عادي foreign direct investment ، يمثل قسمة انتاج عادلة بين المزارع و الشركة والحكومة.
انظر للمنشور الأول للجنرال “كيتشنر” الذي منع فيه امتيازات الأجانب ومنع فيه الأجانب والشركات الإنجليزية من إمتلاك الأراضي السودانية.
لم يتحرّك الإنجليز من بلادهم قاصدين تنمية السودان، وإنما حدث ذلك (Resultantly) نتيجة لوجودهم بغرض أهداف سياسية . إن تحقيق أهدافهم التي دفعتهم لإحتلال السودان، تستوجب استقرار البلاد وتنميتها لتدعم نفسها من مواردها،
الأمر الذي لم يعجب المصريين خاصة فيما يتصل بمشاريع الري . ذكر تقرير المعهد الملكي للشئون الدولية عام 1925م , الجزء الأول (ص) 254-255, أنه عندما بدأ التفكير في مشروع الجزيرة عام 1914م :
( ألحّ المصريون بتأجيل تنمية السودان, الذي تعتبره مصر إمتداداً لبلادهم , إلى أن تتم تنمية مصر أولاً ، وبعد ذلك تتم تنمية السودان، ولكن للحد الذي لا تتأثر به مصالح مصر ريّاً وتجارة, كما يفضلون أن تتم تنمية السودان بالزراعة المطرية فقط). .
وهنا لابد أن نذكر أن البريطانيين كانوا يستخدمون ريع المشاريع في تسيير أمور البلاد وسداد المديونية المصرية على السودان والتي كانت تدعم الميزانية في بداية الحكم الثنائي.
إن الأطراف التي كانت تعارض التنمية الإقتصادية والدستورية في الداخل، كانت تأتي من السودانيين المُوَلّدين ( half cast)، ومن الأرط السودانية المتمصرة (black battalions) والتجار التي ترتبط مصالحهم بمصر، ومن المتعلمين المتشربين بالثقافة المصرية، وما كان ينتج من صراع بين الطائفتين الكبيرتين … وكل ذلك في غياب الإحساس بالقومية السودانية، الأمر الذي ترك فراغاً إمتلأ بالأجندة المصرية خاصة خلال حركة 1924م.
ولكن في بعض الحالات، عندما يشعر هولاء بشئ من القنوط إزاء سلوك المصريين المربوط بمصالحهم، تتغير مواقفهم مثل ما حدث لعبد الله خليل وغيره بعد حركة 1924م , أو عندما يفقدون الثقة في نُخَبِهم من المتعلمين. وفي النص التالي لأحمد خير في كتابه “كفاح جيل” الذي نشره عام 1948م، وهو من مؤسّسي مؤتمر الخريجين ومن الداعيين للوحدة مع مصر، و قد عرف عنه عداءا شديداً مع الإنجليز, قال:
(..والصخرة الصلدة التي ارتطمت بها فكرة التعاون مع زعماء الدين (يقصد الطائفية) ، هي أن الزعيم الذي ينعقد له اللواء وتبايعه الأمة، هو الذي يتقدم الصفوف ويسبق بالتضحية مرتفعاً إلى سماء القيادة من وحي الجنود.
وأما أن يجتمع المثقفون يحرقون أنفسهم بخوراً لرجل بينه وبينهم حجاب من تقاليد بلاط الملوك وبروتوكول الأرستقراطية أو كهوف البابوية في القرون الوسطى، فأمر دونه الإستعمار).
هناك من المثقفين السودانيين من اعتبروا الوجود البريطاني، نعمة أرسلها الله للسودان الذي ظلّ قابعاً في غياهب الجهل , بل أن البريطانيين قد أنقذوا السودانيين من سيطرة المصريين وتغولهم. ذلكم هو المهندس محمد النجومي في كتابه “A great Trusteeship” :”الوصاية العظيمة” ، ولما يمضي على إستقلال السودان سوى بضعة أشهر.
إن الوجود البريطاني في السودان لم يمثل قهراً بيناً لدى معظم الناس للأسباب التالية :
أولاً :- بسط حالة الاستقرار وحسن الإدارة وانفاذ العدالة وسيادة القانون،
ثانياً:- عدم المساس بعقيدة المواطنين و شرفهم،
ثالثاً:- عدم مزاحمة الإنجليز والأجانب للسودانيين في مواردهم وأراضيهم،
رابعاً:- عدم المساس بسلطات زعماء القبائل التقليدية،
خامساً:- اتفاقية الحكم الثنائي أبعدت السودان عن إدارة المستعمرات البريطانية وموظفيها،
سادساً:- عدم شعور المواطن العادي بأن سيادته قد انتزعت منه، وأن البريطانيين ما هم إلا إداريون.
سابعاً:- كان الإداري البريطاني في السودان يتمتع بفردانيته، فمنهم اليساري و الفابي (Fabian) والليبرالي والعالم والمهني.
كل ذلك جعل نمو علاقات إنسانية بين هولاء البريطانيين والسودانيين، أمراً سهلاً ميسورا.
و ذلك ما أكدت عليه في صدر الموضوع، من أن مؤلف الكتاب الراحل حسن عابدين، أراد أن يفتح باباً للنقاش والنظر الموضوعي الأعمق لفترة الإدارة البريطانية في السودان.
29 ديسمبر 2021