عن “عقيدة الحشاشين” وسقوط الأندلس .. بقلم عبد السلام حيدر أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
عن “عقيدة الحشاشين” وسقوط الأندلس
بقلم✍️ عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
رأيت مؤخراً فيلم Assassin’s Creed “عقيدة الحشاشين”، واستمتعت به فنياً وعقلياً، ووجدت فيه ما يستحق الكتابة عنه، والفيلم كما نعرف يعتمد على لعبة الفيديو التي تحمل الاسم نفسه، وتصور الصراع الخفي بين فرقة فرسان المعبد (الصليبية) وفرقة الحشاشين (الإسماعيلية)، وهذا الصراع كما نعرف يعود لأيام الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي، ففرقة الحشاشين بدأت مع بداية هذه الحروب (حسن الصباح 1099م)، وانتهت مع نهايتها تقريباً (في المشرق على يد هولاكو 1265م)، وانتهى كذلك الوجود المشرقي لفرقة فرسان المعبد في تاريخ مقارب.
ولكن الفيلم يتخيل أن الفرقتين استمرتا في الخفاء واستمرت الحروب بينهما كذلك، بل وانتقلت لمراكز وعواصم عالمية أخرى، وكل هذا بسبب “تفاحة الحياة”، ذات البعد الرمزي، التي يمكن لمن يحوزها القضاء على أي محاولة للاستقلال عنه أو الثورة ضده، والفيلم – كما اللعبة لمن يعرفها – يعتمد على بناء متخيل تتخلله عناصر تاريخية أو شبه تاريخية لتوحي بتاريخيته.
نقطة انطلاق أحداث الفيلم تبدأ في العصر الحديث، ولكنه -أي الفيلم- يقوم بعدة رجعات لعصر محاكم التفتيش الإسبانية بهدف تعميق الأحداث وتوضيحها، ويحدث ذلك من خلال تجربة علمية (برنامج أنيموس) تجريها عالمة جينات تسمى “صوفيا” (الممثلة ماريون كوتيار)، وتنتمي لجماعة فرسان المعبد، على البطل “كالن لينش” (الممثل مايكل فاسبندر)، وهدف التجربة أن يتذكر مصير “تفاحة الحياة” التي كانت في حوزة جده الأعلى قائد الحشاشين في الأندلس (Aguilar de Nerha)، لكن والد صوفيا وهو شخصية قيادية في فرسان المعبد كان يبحث عن التفاحة بطريقة أخرى دموية، وبالتالي يجد المشاهد نفسه أمام حرب جديدة بين الفرقتين، لكن بأدوات جديدة، وكانت نتيجة التجربة التي تقوم بها صوفيا أن كالن لينش عرف مَن هو وطور إمكانياته القتالية، وتحول لقاتل محترف حقيقي، وهذا بالطبع بمثابة التمهيد لما سيأتي.
وقد أعجبت على نحو خاص بالتصوير، وهو في رأيي تحفة بصرية ملهمة، بالطبع قصور الأندلس سيتعرف عليها المهتمون دون عناء، وقد تعرفت على بعض الأماكن في مالطا، خاصة “المدينة” التي زرتها في العام الماضي، والتي ما زالت تحتفظ بالطابع العربي الإسلامي في العصور الوسطى، ومما أعجبني أيضاً تقنيات القتال الخاصة بالحشاشين التي لو كنا طوَّرناها وأسسناها علمياً لربما أصبح لدينا فنون قتالية تضارع ما لدى الصينيين واليابانيين، ولو استخدمها الأندلسيون لما سقطت الأندلس أصلاً!
وكما سبق فإن جزءاً كبيراً من الفيلم يدور في عصر محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة الكاثوليكية لمسلمي الأندلس، ومن يريد أن يرى كيف انتهت الأندلس سيجد في الفيلم ما يحزنه، خاصة عن غرناطة التي يصور جزء من الفيلم في قصورها.
ورأيي أن من يرى هذا الفيلم أو يرى معارك مسلسل “صراع الوحوش” (Game of Thrones) ويلاحظ نوعية الدروع التي يرتديها الفرسان سيفهمني عندما أقول إن أهم سبب لزوال الأندلس كان تخلّف الأندلسيين في مجال التسليح وتدريع الفرسان خاصة، فمنذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي بدأت الهوة تتسع على مستوى التعدين وتقنيات التسليح بين الأندلس وبين ممالك الشمال المسيحي التي بدأت تتوسع باتجاه الجنوب، وبسبب هذا الخلل كان من الطبيعي أن تقضي هذه الممالك المسيحية على الأندلس في النهاية.
وهذا الخلل يرجع في رأيي لطبيعة المجتمعين، فالمجتمع الأندلسي كان مجتمعاً مدنياً بطبعه، تهيمن عليه نخبة من الفقهاء والكتاب والشعراء، وهؤلاء في الغالب لا يفيدون وقت النزال، بينما كان المجتمع المسيحي الشمالي مجتمعاً عسكرياً منظماً من أجل الحرب، ومبنياً على أساس مكانة الفارس الذي يقيم في حصن أو قلعة يتم تدريب الفرسان فيها وتعد العدة للحروب.
وكان الأندلسيون يعرفون هذا، فعلى سبيل المثال عندما قصد الإسبان بلنسية لغزوها عام 1063م – 456هـ، خرج أهلها لمنازلتهم بثيابهم العادية دون دروع حديدية، بينما لم يكن يظهر من الفارس المسيحي إلا عيناه فقط، أما بقية جسده فمدرعة تماماً بالدروع الحديدية.
وبالطبع كانت هزيمة أهل بلنسية قاسية والمذبحة التي تمت بحقهم مروعة، وبعد الموقعة التي تسمى “موقعة بطرنة”، قال شاعر أندلسي يصف ما حدث:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ** حلل الحرير عليكم ألواناً
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ** لو لم يكن ببطرنة ما كانا
لكن رغم معرفة الأندلسيين بأسباب ضعفهم ظلوا عاجزين عن تغيير الأمر، وكأنهم كانوا مصروفين عنه قدرياً؛ حيث ظل مجتمعهم حتى النهاية مجتمعاً مدنياً، بينما ظل المجتمع المسيحي الشمالي مجتمعاً عسكرياً، بل كان يزداد تنظيماً وتقدماً في التسليح بسبب المدد الفاتيكاني والمدد من شعوب الشمال التي تنصَّرت حديثاً.
وقد حدث هذا التحول الاستراتيجي في شبه الجزيرة الأيبيرية إبان فترة ملوك الطوائف، وبعد سقوط طليطلة في يد الإسبان سنة 1085م ودخول المرابطين (المغاربة)، وأصبح الأندلسيون عالة على دول المغرب المتتالية في الدفاع عما بقي من أرض الأندلس، ولم يتمكن المغاربة (من المرابطين والموحدين والمرينيين) من تغيير طبيعة المجتمع الأندلسي؛ لأن أهل الأندلس كانوا في الغالب يقاومون ذلك بطرق متنوعة، وعندما عجزت دول المغرب عن مساعدة الأندلس عسكرياً كانت النهاية المؤلمة كما نعرف سنة 1492م، السنة التي تجري فيها بعض أحداث فيلم “عقيدة الحشاشين”.
لكن لاحظ أربعة قرون كاملة وأهل الأندلس عالة على غيرهم، ولا يجتهدون في الاعتماد على أنفسهم عسكرياً وإعداد العدة ومتابعة التطورات؛ لذا تكاثرت عليهم الهزائم والمذابح حتى زالوا، فالسبب الأهم لزوال الأندلس، في رأيي بالطبع، أن أهله كانوا -منذ الفتنة المبيرة وما بعدها- قوماً لا يعقلون التطورات التي جدت في التسليح وإعداد الفرسان وتدريعهم، وأنهم كرروا الأخطاء نفسها لمدة أربعة قرون بشكل رتيب وشبه قدري، (فإلى جانب عدم التسلح والأخذ بالمستجدات فيه، وجدت أخطاء أخرى مثل الفتن الداخلية، والاستعانة بالممالك المسيحية ضد بعضهم البعض)، وبالتالي فشلوا وذهبت ريحهم.
الغريب أننا الآن -تبعاً للقياس- أكثر ضعفاً وهواناً حتى من ملوك الطوائف بهذا الأندلس المغدور، ودليل ذلك أن موضوع الأندلس، كما ذكرت في مقال سابق، يتكرر الآن في فلسطين ولكن بوتيرة أسرع، فقضية فلسطين باختصار هي تكرار لقضية الأندلس، وما إسرائيل بطبيعتها العسكرية إلا نموذج معاصر للممالك المسيحية ذات الطبيعة العسكرية في شمال الأندلس، لكن الفرق الذي يدل على أننا الآن أضعف، أن إسرائيل أنجزت في نصف قرن ما أنجزته الممالك المسيحية الإسبانية في أربعة قرون، ولا غالب إلا الله.