الشهادات الأمريكية .. ومؤامرة تحطيم السودان (1)
تأملات … جمال عنقرة
نقلت أمس النص الكامل لمقال السيد بول كريق روبرت مساعد سكرتير وزير الخزانة الأمريكي في عهد الرئيس ريجان، عن ما أسماه المؤامرة الأمريكية لتحطيم السودان، والذي كانت قد بعثت لي به الدكتورة عفاف أحمد يحي الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر السوداني، ووعدت بالتعليق عليه اليوم، وهو في تقديري الخاص من أهم المقالات التى كتبت مؤخرا عن الشأن السوداني، وتنبع أهميته من تجرده عن أي أهواء أو ميول، ونظره إلى الأمر بدون رتوش، وهو يكشف بجلاء، وبأدلة وبراهين واضحة وثابتة وقوية حقيقة المؤامرات التى يتعرض لها السودان من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولم تحقق هذه المؤامرات ما حققت من نجاحات بسبب قوة تدبير أصحابها فقط، ولكن أعانها علي النجاح ضعف وسوء تقديرنا للموقف في كثير من الأحيان، ولعلنا في حاجة ماسة لمراجعة المواقف والسياسات اليوم قبل الغد، فإن لم نجد غيرنا لنتعظ به، ولم نتعظ من تجاربنا الماضية، فلنتعظ من الذي بين أيدينا الآن، ولعلنا بامعان النظر نجد في ما كتب تفسيرا لكثير مما يجري الآن.
بدأ السيد بول دراسته بنقل بعض ما كتبه الباحثان في معهد السلام بواشنطن جون تيمن، وجاكلين ولسون، فلقد حذر الباحثان السودان وهو دولة فقيرة، ومنغمسة في حروب أهلية ممتدة لأكثر من نصف قرن من الزمان، حذراها من محاولة الإنضمام إلى الدول المصدرة للنفط في العالم، وكان – ولا يزال قبل الإنفصال – في مقدور السودان إنتاج مليون برميل يوميا من النفط، وهذا الأمر لم يكن مرفوضا في عهد الإنقاذ فقط، ولكنه مرفوض منذ المحاولة الأولي الجادة لاستخراج النفط في عهد الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري له الرحمة والمغفرة، وبسبب هذا النفط أشعلت أمريكا نار الحرب في الجنوب، وأرغمت قبلها شركة شيفرون علي التوقف من استكشاف وإنتاج النفط في السودان. وقال الباحثان أن التحذير زاد عندما حكم السودان نظام إسلامي مغامر، يمكن أن يشكل تهديدا للمصالح الأمريكية في المنطقة، وهنا يكمن الخطأ الكبير الذي وقع فيه نظام الإنقاذ، وهو خطأ سودانوي قبل أن يكون خطأ متعلق بمنهج وسياسات الإنقاذ، وهذا ما أشار إليه السيد بول في مقاله، فالسودانيون عموما، وعلي مدي تاريخهم الطويل منذ آلاف السنين، يهتمون بالتمدد الخارجي، فالفراعنة السودانيون تمددوا في الحكم شمالا، وتجاوزوا مصر ووصلوا حتى تخوم رفح في فلسطين، والإمام المهدي جعل من بين خلفائه، أحمد عرابي في مصر، والسنوسي في ليبيا، وكان قد وجه أنصاره باعتقال غردون باشا، وحذرهم من قتله حتى يفدي به السيد عرابي في مصر، ومعلومة الحملات التي جردها الخليفة عبدالله التعايشي لاحتلال مصر والحبشة، ولعل الناس يذكرون الرسالة التي بعث بها الخليفة عبدالله إلى ملكة بريطانيا يدعوها فيها إلى الإسلام لتسلم، ووعدها بماكافأتها إن أسلمت بتزويجها أحد أمراء المهدية، ومن الأسباب التي حملت الإنجليز علي قيادة حملة للقضاء علي دولة الفور، والقضاء على حاكمها السلطان علي دينار، موقف السلطان في الحرب العالمية الأولى، ووقوفه إلى جانب تركيا، لأنه كان يراها ممثلة للدولة الإسلامية، وهذا لم يكن سبب القضاء علي سلطنة الفور فقط، ولكنه أيضا كان سببا في التشويه المتعمد الذي تعرض له السلطان علي دينار، ولا تزال عملية التشويه مستمرة. وما فعلته الإنقاذ أنها سارت علي ذات الطريق الذي سار فيه سودانيون سابقون من عهد الفراعنة، وحتى عهد السلطان علي دينار، فانصرفوا عن كثير من قضايا الوطن الداخلية، ودخلوا في معارك خارجية لم يكن لها ما يبررها، ولا يمتلكون عدتها ولا عتادها، ومنها ما صار سخرية في حينه وبعدها (أمريكا وروسيا قد دنا عذابهما) ولم تسلم منهم المنطقة المحيطة العربية والإسلامية، فبعد حرب الخليج، عملوا علي تجميع كل المعارضين لحكومات وأنظمة المنطقة في المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي اتخذ من الخرطوم مقرا له، وتنادي وتداعي له كل مطاريد الحكومات العربية والإسلامية، وكان هذا سببا كافيا لتأجيج نار الحرب علي السودان، فأتاحت السياسات والمواقف الخاطئة للنظام الفرصة لأعدائه من الأمريكان لتمرير سياساتهم الرامية لتحطيم السودان.
معركة أمريكا مع السودان، والحرب الأمريكية لتدمير وتحطيم المقدرات السودانية، وفق ما ذكره السيد بول كريق روبرت، وما هو ثابت أصلا، ليست لها علاقة بحكومة، ولا بنظام حكم، ولكنها نشطت أكثر في عهد الإنقاذ، لأن الإنقاذ أتاحت لها الغطاء المنطقي لذلك أولا، ثم لأن الإنقاذ اعتمدت سياسات تراها الإدارة الأمريكية خطيرة، فهي سعت للحصول علي علاقات بديلة تحرر البلاد من الهيمنة الأمريكية التى تعمل علي توجيه حركة الاقتصاد في السودان حتى لا ينهض ويشكل لها خطورة في المنطقة، ومن ذلك علاقة الإنقاذ بالصين وروسيا، واتاحتها الفرصة لهم للعمل في مجالات حيوية وتنموية، ونهضوية، وهذا ما لا تسمح به أمريكا في السودان مطلقا، وذلك ليس له أي علاقة بتوجهات الحكومة الإسلامية، فهو ممنوع ومحظور علي أي حكومة في السودان، ولو كانت موالية لأمريكا نفسها، فهناك دول إسلامية تاريخية وكبيرة، ولديها مقدرات عظيمة، لا تناصبها أمريكا العداء، ولا تقف في وجه أي تمدد اقتصادي أو سياسي لها، بل قد تعينها علي ذلك، وهي دول معروفة، وأمريكا راضية عنها، ذلك أنها ليست مثل السودان، ولا تشكل خطرا عليها البتة، ولكن الخطر في السودان، وفي أهل السودان، في كل العهود والأزمان، وهذا ما يجب أن نعلمه، ونعرف أسبابه، ونتصرف علي أساسه، باعتبار سودانيتنا أولا وأخيرا.
نواصل بإذن الله تعالي