بعد عقود من الإقامة.. اللاجئون العرب بأربيل صاروا من الأكراد
منذ شهرين على الأقل، لا تخلو مكتبة خلدون بشارع الأسايش في حي هفالان الشعبي المُزدحم وسط أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، لا تخلو من مئات الطلبة المُرتادين على المكتبة، من المُتقدمين للامتحانات العامة للشهادتين المتوسطة والعامة، الجارية هذه الأيام.
منذ شهرين على الأقل، لا تخلو مكتبة خلدون بشارع الأسايش في حي هفالان الشعبي المُزدحم وسط أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، لا تخلو من مئات الطلبة المُرتادين على المكتبة، من المُتقدمين للامتحانات العامة للشهادتين المتوسطة والعامة، الجارية هذه الأيام.
فصحاب المكتبة ومُديرها الشاب خلدون المصلاوي، كما يُسميه أهل الحي، هو واحد من أكثر المُطلعين والخُبراء بالمناهج التربوية في الإقليم، بما في ذلك منهاج القواعد النحوية والإملائية لمواد اللغة الكُردية، حيث يُقدم نصائح وإرشادات وأوراق تفصيلية ومُلبية لحاجة كُل طالب منهم، بعد أسئلة سريعة يطرحها عليهم.
خلدون المُنحدر من أسرة عربية من مدينة الموصل، المُهجر مع عائلته من مدينته منذ خمسة عشر عاماً بالضبط، حينما كان في السادسة من عُمره وقتئذ، والمقيم معهم في مدينة أربيل منذ ذلك الوقت، يروي في حديث مع سكاي نيوز عربية “لا أعرف مدينة عراقية أخرى غير أربيل، التي كبرت ودرست في مدارسها، أعرف أحيائها وحكايات أهلها، أملك فيها عملاً وبيتاً صغيراً، وكل أصدقائي هُم هنا. زرت الموصل أربعة مرات فقط منذ أن غادرناها قبل خمسة عشر عاماً، وفي كُل مرة كُنت اشتاق لأربيل بعد أيام قليلة، وفي المرة الأخيرة التي زرتها عقب تحريرها من تنظيم داعش، لم أعرف منها أي شيء، حتى أهلي كان ينتابهم شعور من مثل ذلك”.
يضيف المصلاوي في حديثه لـسكاي نيوز عربية “اثنان من أخوتي الشباب ارتبطوا بفتيات كرديات، وأختي مخطوبة لشاب كردي من مدينة السُليمانية، كان طالباً معها في كلية الآداب بجامعة صلاح الدين بمدينة أربيل، فيما يقوم أبي وأمي بإتمام بناء المزرعة الصغيرة التي اشتريناها في منطقة شقلاوة الجبلية شمال المدينة. فهذه المدينة وعموم إقليم كردستان هو بالنسبة لنا المُستقر النهائي للعيش في العراق، لا نشعر بأية غُربة أو منفى، ولا نعتبر أنفسنا لاجئين”.
تشكل قصة الشاب خلدون المصلاوي واحدة لمئات الآلاف من المواطنين العراقيين المُقيمين في إقليم كردستان العراق، حيث يُقيم أكثر من مليون ونصف لاجئ عراقي ضمن محافظات الإقليم الثلاث، توافدوا على الإقليم منذ العام 2005، بعدما تصاعدت أعمال العنف الديني والطائفي في العراق، ولأسباب اقتصادية وسياسية وأمنية، وحتى مناخية، فإن الأغلبية المُطلقة منهم استقرت في مُدن الإقليم، وصاروا بالتقادم مندمجين ضمن النسيج الاجتماعي الكُردستاني، المُشكل بالأساس من طيف من الأعراق والأديان والثقافات العراقية، وإن كان بأغلبية كردية.
الغفران السياسي هو أولى وأهم آلية جاذبية إقليم كردستان بالنسبة للاجئين العراقيين في كردستان واستقرارهم بها، وانتمائهم إليها، كما يشرح الباحث الاجتماعي العراقي نبوان الدوري في حديثه مع سكاي نيوز عربية “بدأ التهجير العراقي اعتباراً من صدور قانون (اجتثاث البعث)، الذي لم يكن مجرد قانون تشريعي أو سياسي، بل محاولة قصوى من قِبل الحاكمين الجُدد بعد العام 2003 لاقتلاع البيئة الاجتماعية والعائلية لكل المنخرطين في النظام العراقي الأسبق، بما في ذلك كبار الموظفين الإداريين والاقتصاديين.
ويضيف الدوري قائلا “وجد هؤلاء ضالتهم في إقليم كردستان، وقطعوا حياتهم وجذورهم التي كانت في المناطق الأخرى من العراق. فإقليم كردستان العراق، وبالرغم من قسوة ما عاناه مواطنون على من ممارسات فظيعة على يد النظام السابق، التي وصلت حد القصف بالأسلحة الكيماوية، إلا أنه اتخذ قراراً أعلى بمنع الانتقام والحُكم على الماضي، لذلك خلق حالة اندماجية وبيئة جاذبة لمئات الآلاف من العراقيين الذين كانوا ضحية الانتقام. ففي العراق قبل العام 2003 كان ثمة أربعة ملايين بعثي، منهم مائة ألف قيادي على الأقل، يشكلون مع عائلاتهم أكثر من مليون ونصف عراقي”.
عرب إقليم كردستان، كما يُحبذون تسميه أنفسهم، يُقدرون بقرابة خُمس سكان الإقليم، يتلقون خدمات تعليمية وصحية وفرص عمل ومساهمة في الشأن العام شبيهة بما يتوفر لمواطني الإقليم من الكُرد والتركمان والآشوريين. فالقرارات والتوجهات الرئيسية لحكومة إقليم كُردستان العراق ترفض وتقمع أي تمايز على أساس العرق والمنشأ والرأي السياسي. ولم يشهد إقليم كردستان أية ظاهرة أو حادثة للعنف على أساس العرق أو القومية، على عكس باقي مناطق العراق. وفي المرات النادرة التي حدثت فيها أحداث فردية، فإن السلطات الأمنية في الإقليم كانت حريصة على التصرف على أساس سلطة عمومية، عاقبت فيه المُقدمين على مثل تلك الأفعال بجرعة مضاعفة.
الباحثة الاجتماعية الكردية العراقية جيان هركي شرحت في حديث لسكاي نيوز عربية آليات تأثير المُدن الحديثة في إقليم كردستان العراق في إحداث هذا الاندماج بين الأكراد وغيرهم من المُقيمين في الإقليم “المُدن الرئيسية الثلاثة في الإقليم، أربيل السليمانية ودهوك، ولأسباب تتعلق بتضخمها الاستثنائي خلال السنوات الماضية، ونوعية الخدمات السياحية والإدارية والاقتصادية التي تقدمها، ونوعية الحياة المدنية المفتوحة فيها، تحولت بمعنى ما إلى نماذج مُصغرة للمُدن الكوزموبوليتية، وإن كانت عددياً لا تتجاوز 1.5 مليون نسمة. لكن ضمن هذه المساحة والأعداد الصغيرة، ولتلك الأسباب، وجدت الكثير من المجتمعات المحلية الجديدة فرصة مناسبة للعيش والاستمرار، وكان اللاجئون العرب من مختلف مناطق العراق المثال الأكبر عن ذلك، بالإضافة إلى أبناء الطوائف المسيحية، وحتى اللاجئون السوريون والقادمون من تركيا وإيران، فرصة مناسبة لخلق بيئة عيش مديد جديدة، ونوعاً ما الانتماء إلى هذه المكان والولاء له”.