جريدة لندنية: وعود الحكومة السودانية بحرية الإعلام تسقط عند الاختبار الفعلي ..قطع بث برنامج على التلفزيون الرسمي لانتقاده إجراءات حكومية
الإعلام البديل موجود
أثبتت حادثة قطع البث عن برنامج في التلفزيون الرسمي السوداني استمرار سياسة القيود المفروضة على الإعلام، وأن الحديث عن خارطة طريق إصلاح الإعلام وتطويره سيبقى مجرد تصريحات دون إجراءات فعالة وتشريعات قانونية تضمن حرية الصحافة والإعلام والقطع مع سياسات النظام السابق التي تركت أثرها على الممارسات الصحافية.
الخرطوم – قطع تلفزيون السودان الرسمي مساء الخميس بث حلقة من برنامج “المشهد” على نحو مفاجئ، بسبب انتقاد أحد الضيوف للحكومة وسياسة رفع الدعم وأثرها على المواطن، في حادثة تشير إلى استمرار القيود والرقابة على وسائل الإعلام السودانية وعدم إيفاء الحكومة بتعهداتها المتكررة في هذا المجال.
وقال محمد الزين محمد القانوني والمحامي والمحلل الإستراتيجي، أحد ضيوف الحلقة، عبر مقطع فيديو على صفحته في فيسبوك “تم الاتصال بالمخرج أن يقطع البث قبل أن تكمل الحلقة نحو ثلث ساعة من البث المقرر لها لمدة ساعة”.
وأضاف أن المخرج أخطر المذيع أن يقطع الحلقة بورقة قدمها له على الهواء، وذلك وفق تعليمات عليا مجهولة، وتم بالفعل قطع البث على نحو مفاجئ، مؤكدا أن السبب يعود لانتقاده لسياسة رفع الدعم وتضرر الإنتاج وغياب الرؤية وضعف أداء الحكومة.
وتتناول الحلقة التي قدمها الإعلامي محمد أحمد الشيخ “التطورات الاقتصادية الراهنة ورفع الدعم عن المحروقات”.
وأثار وقف البرنامج ضجة واسعة في السودان، واعتبر صحافيون أن ما جرى بمثابة تكميم أفواه بهدف عدم توعية المواطن السوداني بمحنته وأسبابها وهو نوع من قمع الحريات لتضليل الرأي العام وضرب الحريات الإعلامية في مقتل.
وقالوا إنه على الرغم من أن السودان شهد تغييرا كبيرا في أبريل 2019، وكانت الحرية أحد أبرز شعاراته، إلا أن الحديث عن حرية الإعلام في ظل وجود مؤسسات عمومية تتم إدارة وإنتاج المحتوى فيها بعقلية السبعينات لا معنى له.
وتحتاج مؤسسات مثل الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء إلى هيكلتها وتنظيمها، لمعالجة مشكلاتها الراهنة ومساعدتها على التقدم في أداء دورها المهني.
كما أن مؤسسات الإعلام الخاص، بكافة أنواعها صحف أو إذاعات أو قنوات فضائية، ليست أفضل حالا. ولم تجد الدعم المتوقع من الدولة خاصة في ما يتصل باشتراكاتها في أقمار البث وتسهيل دفع التزاماتها بالعملة الحرة، وعانت الصحف من مصادرة بعضها وحرمان البعض الآخر من المشاركة الفاعلة في الشأن العام. ولم تعجز الحكومة عن العثور على تبريرات لذلك.
ويقول خبراء إعلام إن إيقاف البرنامج في التلفزيون الرسمي جزء من مشكلة أكبر تتعلق بتسيير القطاع في ظل منظومة قانونية وتشريعية عفا عليها الزمن، وتعهدات الحكومة المتكررة بحرية الصحافة والإعلام لن تثبت جديتها دون أن تترافق بإجراءات قانونية تحترم حرية الإعلام وحق الوصول إلى المعلومات.
وأكد المختص القانونيّ نبيل أديب على ضرورة إصلاح التشريعات والقوانين التي تحكم الإعلام وضرورة حرية التعبير وتلقي المعلومات وتعدد الإعلام، ومنع الحظر المطلق للنشر وحق الصحافي في الاحتفاظ بسرية المصادر ورفض الرقابة القبلية.
قطع برنامج في التلفزيون السوداني اعتبر نوعا من قمع الحريات لتضليل الرأي العام
وأشار لدى استعراضه المؤشر القانونيّ بورشة تنويرية حول أنشطة اليونسكو في قطاع الإعلام لأطراف العملية السلمية إلى خارطة طريق إصلاح الإعلام التي أعلنت عنها الحكومة العام الماضي.
وقالت الحكومة إنها تسير باتجاه “تحرير احتكار الإعلام بإعطاء مجال للإعلام الخاص وإزالة القيود التشريعية حتى تتعدد وسائل الإعلام”، وذلك في ظل حديث عن بقاء الصحافة السودانية أسيرة المنظومة السابقة وعدم مواكبة التحول الديمقراطي.
وأفاد وزير الثقافة والإعلام السوداني فيصل محمد صالح “نريد إعطاء أجهزة الإعلام قدرا كبيرا من الاستقلالية لتكون مملوكة للدولة والمجتمع”، وأكد على أهمية وضع خطة وطنية للتدريب.
لكن لم يتغير أداء الإعلام السوداني، فما يتم تناوله عبارة عن تكرار للأخبار التي يتم تداولها في المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولا تناقش أفكارا جديدة ولا تهتم بقضايا حساسة تشغل اهتمام المواطن، ولا تزال الحكومة تمارس الرقابة على ما يتم بثه ونشره كما جرى في برنامج “المشهد”.
ويعتبر إصلاح القوانين من أهم عوامل تحرير الصحافة السودانية ودفعها نحو التطوير، إذ كانت الصحف محاصرة بجملة من القوانين التي تقيد حرية الصحافة والتعبير، أبرزها قانون العام 2009 الذي تضمن مواد عقابية تجيز حظر الصحف لعدة أيام، وهو ما كان يجري دائما، فلا يكاد يمر يوم دون حظر إحدى الصحف السودانية، أما قانون العام 2013 فنصّ على إمكان إغلاق دور الطباعة وفرض غرامات على الناشرين، وكانت تتم مصادرة الصحف من دون سابق إنذار ومن دون إعلام الناشرين بالأسباب، كما كان يتم استدعاء الصحافيين أمام النيابة العامة بلا إجراءات قانونية محددة، ومن غير علم بتُهمتِهم، لكن الأسباب الشائعة بين الصحافيين هي انتقاد سياسات الحكومة أو الإشارة إلى بعض مواطن الفساد الحكومي وغيرها.
وفرضت قيود قانونية على الصحافيين استنادا إلى مواد من القانون الجنائي لعام 1991، مثل “تقويض النظام الدستوري” و”نشر الأخبار الكاذبة”، كذلك بعض المواد من قانون جرائم المعلوماتية للعام 2007، وقانون الصحافة والمطبوعات 2009، وقانون الأمن الوطني 2010.
وتشمل تلك التشريعات قانون الصحافة والمطبوعات وقانون الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وقانون حق الحصول على المعلومات وقانون البث الإذاعي بجانب قانون جرائم المعلوماتية.
وسلط تقرير خارطة طريق إصلاح الإعلام الضوء على نقاط الضعف لدى المؤسسات الإعلامية، وأبرزها أن معظم تغطية هذه المؤسسات تركز على دولاب العمل الحكومي اليومي وبعض أنشطة المؤسسات ذات الصلة بالعمل
الرسمي.
وقال الخبير الإعلامي محمد عبدالسيد الذي شارك في إعداد تقرير خارطة الطريق، إن الفقر الإعلامي الذي تعاني منه الصحافة السودانية يعود إلى عدم التدريب وعدم التواصل بين الأجيال.
كما تعاني وسائل الإعلام بشكلها الحالي من ضعف المحتوى والتأثير لدى الرأي العام، مما فتح المجال للمؤسسات الإعلامية العالمية لجذب جمهور الإعلام السوداني.
ويقول متابعون لأوضاع الصحافة والإعلام في السودان إن المؤسسات الصحافية ضعيفة ولم تتخطّ بعد الظروف التي عاشتها الصحف الورقية في ظل الأنظمة الشمولية، الأمر الذي منعها من التطور مع التحول الديمقراطي.
الصحافة السودانية لم تواكب الطفرة التكنولوجية العالمية، كما أنها لم تغير قوالبها التحريرية لجذب المتلقي
ويربط البعض مشكلة التمويل بضعف أداء الصحافيين، فعوامل تراجع الإعلان المستمر وتدني نسبة مبيعات النسخ تتسبب في عجز الصحف عن توفير تكاليف الطباعة والنشر والتوزيع والورق والحبر، وهي أيضا لا تساعد الصحافيين على الابتكار والإنتاج الصحافي الجيد.
ويقول معظم الصحافيين إنهم يعملون بأجور زهيدة تحرمهم من العمل الميداني المُبتكر والتدريب ومن الآفاق المهنية المفتوحة والمجزية. كما أن سوء الإدارة والتخطيط في المؤسسات الإعلامية جعلها غير قادرة على تشكيل صناعة قابلة للحياة عبر خدمات متكاملة من صحيفة ورقية وموقع إخباري وراديو وتلفزيون.
ويضيفون أن الصحافة الورقية بشكلها التقليدي تتراجع في العالم كله وكبريات الصحف في البلدان الغربية قلصت الجانب الورقي في نسخ ورقية محدودة وانتقلت إلى النشر الإلكتروني، لكن الصحافة السودانية لم تواكب هذه الطفرة العالمية، كما أنها لم تغير قوالبها التحريرية لجذب المتلقي.
وتطفو على السطح مسألة ارتباط المؤسسات الصحافية بالحكومة من خلال توزيع الإعلانات، إذ ظلت طيلة 30 عاما أداة ترغيب وترهيب لإخضاع الصحف، فباتت الرقابة الذاتية أشبه ببروتوكول صحافي التزم به الصحافيون وساروا على نفس النهج حتى بعد ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام عمر حسن البشير.
وبعد مضي أكثر من عامين من ذلك التغيير، لم يشهد ترتيب السودان في مجال حرية الصحافة تقدما، وبحسب التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود للعام 2021، جاء السودان في المرتبة رقم 159 عالميا والمرتبة الـ13 على مستوى العالم العربي.