د.مبارك الكودة يكتب..أعيدوا للثورة وعيها
د.مبارك الكودة يكتب..أعيدوا للثورة وعيها
—————————
الثورة قيمة وطاقة ايجابية ، وفعل مستمر صعوداً وهبوطاً هدفها تأسيس مشروع مطلق خلافة الإنسان في الأرض ، حتي الانقلابات العسكرية وجه من وجوه التعبير الثوري ، فتنظيم الضباط الأحرار تتظيماً ثورياً وربما تمثل الانقلابات محطة الهبوط في مسيرة قِيمَتي الحرية والديمقراطية ٠
والشهادة والدم هما محورا الثورة ومرتكزها الأساس ، وبلاشهداء وأشلاء ودماء لن يتحقق الفعل الثوري ، ولم يُسَمّي الشهيدُ شهيداً إلّا لأنه شهد بدمه وروحه بأنه ضد الباطل ، وشهادة لا إله إلا الله شهادة إثبات للحق باللسان وتكتمل بتقديم النفس مكان الكلام ، والأرواح الطاهرة هي التي تدرك القيم السامية كما قال العارف بالله الشيخ عبد المحمود نور الدائم في قصيدته شُرب الكأس :
( يا سالكاً لطريقة العرفان
السيرُ بالارواح لا الابدان )
وليست لقيم الثورة محطة تنتهي عندها فهي كما أتفقنا مطلق ليس للساعي فيها إلّا ما سعي ووصفها شاعر الاكتوبريات محمد المكي إبراهيم :
كان أكتوبر في أمتنا منذ الأذل
كان خلف الصبر والأحزان يحيا
صامداً منتظراً حتي إذا الصبح أطل
كان أكتوبر في قبضتنا الأولي مع المك النمر
كان أسياف العشر ومع الماظ البطل
وعبّر عنها ايضاً بقوله :
باسمك الشعب أنتصر حائط السجن انكسر
والقيود انسدلت جدلة عرسٍ في الأيادي
فقد كانت اكتوبر فعلاً جدلة عُرْسٍ في الأيادي وقد عشنا هذه الحالة القيمة وتذوقناها عند سقوط شهداء القصر الأربعاء ٢٨ اكتوبر ١٩٦٤ وكنت حينها شاهد عيان وأنا ابن الخامسة عشر من العمر ، أقف رغم سني صوفياً مجذوباً في الناحية الغربية لشارع القصر جنوب ميدان أبو جنزير وربما لأول مرة في حياتي أسمع صوت الذخيرة الحية واختلط عندي حينها الفرح والخوف ورآئحة الدم بالبارود ٠
كنا عُزّلاً وكان هتافنا الرصاص لن يثنينا عندما انتهت بنا المسيرة السلمية عند ساحة القصر الجمهوري ، وفجأةً وبلا مقدمات ( حدث ما حدث)وتركنا وراءنا بعد سماع صوت الرصاص المتقطع العشرات من القتلي والجرحى وغني ود الامين ومجموعته رآئعة الشاعر هاشم صديق :
وكان في الخطوة بنلقي شهيد
بدمه بيرسم فجر العيد
وعندما اصبح صبح اليوم التالي تملكني شعور بالفخر والزهو وأنا أقرأ أن مدينتي كسلا ساهمت في هذا العرس القومي بالشهيد عبد الرحيم حران الطالب بمعهد المعلمين العالي ، وأزداد طعم الثورة حلاوة وطلاوة بصعود هذه الأرواح الطاهرة الي بارئها رغم أن سيناريو إطلاق النار علي المسيرة كان أكثر وضوحاً وقسوة من من الذي حدث في ساحة القيادة العامة إذ كانت الذخيرة تأتينا مباشرة من أعلى شرفة في القصر حيث الرئيس وأركان حربه ، وكنّا نعلم علم اليقين من هو الذي أصدر تعليمات الضرب بالرصاص وكنّا نعلم أيضاً أنه لا ثورة بلا شهداء ، ولن يفرش لنا الباطل الورود والرياحين والبساط الأحمر لنستلم منه مفاتح الحق بمراسم احتفالية يُقص فيها الشريط التقليدي لبداية مرحلة جديدة ، ولذلك لم نحتاج لأمثال المحامي نبيل أديب عبد الله !!
تُري من المسئول عن انحراف ثورة ديسمبر عن مسارها فتقزم طموحها وتبدل ادبها وبدلاً من :
وسال الدم في أرض الوادي
فدينا النور بالروح يا بلادي
الي :
عاوز سفة ندردمه ليك
كنداكة نعرسها ليك
بطنك نستفه ليك
من الذي جاء بهذا الأدني من الأدب وسخيف القول مكان الذي هو خير وجعل من هذا الغثاء بديلاً للمطلق من القيم ؟ ربما أتفق مع من يقول أن هذا النوع من الأدب كان ضرورة ثقافية اقتضاها الظرف ولكنه للأسف وبفعل فاعل طغي وتمدد علي حساب وعي الثورة ومشروعها الأساس فأصبحت بهذا الاستبدال المصنوع مشروعاً فارغاً من المحتوي والمضمون وهاهي تجعل من أستراتيجيتها وجهدها وتختزل مشروع الثورة في البحث عن غريمها الذي قتل الشهداء ، وجعلت من الهتاف بالقصاص غاية تنتهي عندها الثورة ، والقصاص بالطبع ليس بقيمة مكافئة لتطلعات هذه الأرواح الطاهرة ، ولا أعتقد أن هتاف الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية هتافاً ثورياً كما أنه لا يجوز في حق هولاء الشهداء !! فقد حكمت محكمة الشهيد أحمد الخير علي أكثر من ثلاثين من قَتَلَتِه بالإعدام شنقًا حتي الموت !! فهل يعني هذا أن الدماء قد تكافأت بعد تطبيق القصاص ؟واختم مقالي بأن الذي يجوز في حق هؤلاء الشهداء هذه الرؤية والتي جسدها شاعرنا ود المكي وغناها الأستاذ وردي :
(سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا
ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا إسماً وذكرى…
باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنّي والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي باسمك الشعب انتصر حاجز السجن انكسر
والقيود انسدلت جدلة عرسٍ في الأيادي )
فلا تفسدوا أيها الساسة علي الوطن ثورته بهذا الهتاف الأخرق والمصنوع لأغراض السياسة ، واجعلوا من الثورة وادبها مشروعاً إيجابياً للبناء بدلاً من هذا الخواء الفكري والسطحي المسيس ، وعليكم أيها الشباب أن تجددوا وعي ثورتكم والله ولي التوفيق والسداد ٠
مبارك الكوده
٢٧/ مايو / ٢٠٢١