من أعلى المنصة ياسر الفادني : وكيف …كيف …لما الفراق يحصل ؟

هي ليست مجرد أغنية، إنها نزف مكتوم، حزن جليل، ونداء مستميت يُطلقه قلب ذاق الفقد حتى النخاع. “شقي الأيام” ليست كلمات تُغنى، بل نواح مكتوم تُسكب على جراح لا تندمل، كتبها عبد الرحمن مكاوي كمن يخط آخر رسائله قبل الغرق، وبث فيها حزنه الخام، مكسوًا بجمال اللغة ودهشة التعبير، وحملها حمد الريح على صوته كما يُحمل النعش على الأكتاف

“شال هم فرقتك قلبي” ليست افتتاحية، بل صرخة. فيها من الثقل ما يعادل فصولاً من العذاب، وكأن القلب لم يعد ينبض إلا بثقل الوداع، ود مكاوي حين كتب “معاك ياريتو كاااان يرحل” أسقط كل مسافة بين الأمنية والوجع، وترك الباب مفتوحًا على أملٍ لن يأتي

الصور الشعرية في الأغنية لا تستعير من المجاز، بل تخلقه. (أنا الخايف من الأقدار أتوّه في دروبا ما أوصل)، تلك ليست مجرد مخاوف، بل هي قلق وجودي من التوهان الأبدي، حيث حتى الرجوع يصبح مستحيلاً، وحيث الدروب تبتلع العاشق دون خرائط. (ومشتهيِك يا عيون) هي لذة النظر حين يتحوّل إلى وجع، إلى تعلق لا خلاص منه

اللازمة التي تتكرر (وكيف لما الفراق يحصل… إن شاء الله ما يحصل) ليست تكرارًا للعبارة، بل رجع صدى روح تُنكر الواقع، تتمسك بما تبقى من الوصل، وتخشى أن تصحو يومًا فتجده قد صار سرابًا. هذه العبارة تصبح ترنيمة، لحن حب لا تُقال لله بل لمن هجر، لمن غاب

وفي “بريدك يا شقي الأيام”، تتجسد المفارقة الكبرى، فهو لا يلعن الأيام، بل يشتاق من جعلها شقية، يشتاق رغم العذاب، وكأن الحب نفسه صار قدرًا لا يُرد، هناك رقة قاتلة حين يقول (وأبكي معاي عيون أحباب، عشان آسف الدموع يشهد)، الشاعر هنا يُجنّد دموع الآخرين لتكون دليلاً على صدقه، يطلب الشهادة من الوجع نفسه

اللحن، الذي صاغه يوسف السماني، ليس زينة للكلمات بل شريانها بدأ برهافة، كأن الآلات تمشي على أطراف أصابعها خشية أن توقظ جرحًا نائمًا، ثم تتصاعد معاناة المقاطع تدريجيًا، في بناء درامي متماسك يطوّق المستمع في قبضة العاطفة، لا فكاك منها

أما صوت حمد الريح، فليس أداءً، بل تشظٍ. صوته يأتي كمن يغني بذاكرة موجوعة، كل جملة فيها نبرة ذبول، كل مدّ صوتي فيه لوعة مكتومة، لا يتغنى بالكلمات، بل ينزفها. حين يكرر “كيف كيف لما الفراااق يحصل” يتدرج صوته من الرفض إلى الخوف إلى الرضوخ، وكأنك تسمع تطور الحزن على مراحل

هذه الأغنية لم تكن عابرة في وجدان الشعب السوداني، بل كانت مرآة لألم جماعي، ومناجاة مفتوحة لكل من عاش الافتقاد، هي نشيد للعشاق، للمفارقين، للذين رحل أحباؤهم دون إنذار، في مقاهي الخرطوم، في قُرى الجزيرة، في قلوب المغتربين، ستجد صدى هذه الأغنية حيًا، نديًا، كأنها كُتبت أمس.

إني من منصتي…. أستمع حيث أجزم تماما…. بأن أغنية “شقي الأيام” أغنية لا تموت لأنها كُتبت بمداد من دم، ولأنها قالت ما تعجز عنه اللغة، ولامست ما لا تبلغه يد، ستظل خالدة ما دام في الناس عشق، وما دام فيهم وجعٌ لم يُقال بعد.

مقالات ذات صلة