وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : أنس و الجزولي .. لغز يحير المراقبين ؟!

رغم انقضاء عامان على اندلاع الحرب في السودان، وتغير موازين المعارك لصالح القوات المسلحة، لا تزال علامات الاستفهام تحيط بمصير اثنين من أبرز القيادات الإسلامية: أنس عمر، القيادي بحزب المؤتمر الوطني، ومحمد علي الجزولي، رئيس حزب دولة القانون. فقد تم اختطافهما من قبل مليشيا الدعم السريع في مايو 2023، وسط صمت دولي مريب وتجاهل متعمد من المنظمات الحقوقية والإعلام الإقليمي والدولي، رغم وضوح الملابسات وعلنية الجريمة.

لقد جاء اختطاف هذين الرمزين في لحظة سياسية فارقة، تميزت بصراع محتدم بين مشروعين: مشروع علمانية الدولة تمثله قوى الشراكة بين مليشيا الدعم السريع وبعض القوى السياسية “قحت” ، ومشروع اسلامية الدولة ويمثله الإسلاميين بتياراتهم المتعددة ، وكان أنس والجزولي أبرز وجوهه، بما لهما من ثقل جماهيري وكاريزما قيادية وقدرة على استنهاض الفعل السياسي المعارض. من هنا تبدو الجريمة انتقائية بطبيعتها، لا تستهدف مجرد شخصين، بل تحاول اغتيال رمزية تيار بأكمله.

في ساحة المشهد السياسي، كان أنس عمر خلال السنوات التي اعقبت سقوط عمر البشير في العام 2019 أحد أعمدة التعبئة الجماهيرية، صلبًا في مواقفه، واضحًا في خطابه، يردد بثقة أن مشروع الحكم في السودان لا يُدار إلا بتفويض شعبي، وأن إقصاء الإسلاميين وهما كبير تعيشه بعض القوي السياسية . أما الجزولي فقد لمع اسمه كمثقف إسلامي جريء، ومفكر من طراز خاص، استطاع أن يؤسس لحزب بخطاب قانوني مدني يحمل في جوهره رؤية إسلامية للمجتمع والدولة. فهل كان استهدافهما هو الرسالة الأبلغ التي أرادت المليشيا توجيهها لمن يفكر في التمرد السياسي على الأمر الواقع؟ الذي كانت تحاول فرضه علي الشعب السوداني.

في مايو 2023، تداولت وسائل الإعلام ظهور فيديو مسجل للقيادي أنس عمر، بدأ فيه تحت التعذيب وهو يجيب عن أسئلة تتعلق بعلاقته بالقوات المسلحة، وهو ما اعتبره حزب المؤتمر الوطني دليلاً قاطعًا على اختطافه وانتهاك حقوقه كمدني. وفي المقابل ظهر نجل أنس عمر عبر قناة “الجزيرة مباشر”، مؤكدًا اقتحام منزلهم من قبل عناصر الدعم السريع واعتقال والده دون مسوغ قانوني.

المثير للدهشة أن القائد الميداني بالمليشيا “السافنا” نفى لاحقًا تصفية أنس عمر، مؤكدًا في حوار صحفي ” لسودان تربيون” أن “تصفية الأسرى ليست من عاداتهم”، وهي عبارة لا تلغي الجريمة، بل توثق الاعتراف بها ضمنيًا. ومع ذلك لم يصدر أي بيان رسمي أو تحقيق محايد حول اختفائهما، ما يضع مليشيا الدعم السريع وداعميها المحلين و الإقليميين في موقع اتهام مباشر.

لكن لماذا أنس والجزولي تحديدًا؟ تشير القراءة التحليلية إلى أن اختطافهما لم يكن عملاً معزولًا، بل كان مقدمة لحملة منظمة ضد الرموز الإسلامية التي قاومت مشروع اختطاف الدولة و الشراكة بين قحت والدعم السريع. لقد مثل الاثنان “حجر عثرة” حقيقية أمام تمدد المشروع الهجين المفروض على السودانيين، الذي وُلد مشوهًا، فاقدًا للشرعية الشعبية. كانا صوتين يصعب كتمهما، كما كانا من أهم أدوات تحريك للرأي العام التي يصعب تحييدهما.

لقد لعب الرجلان دورًا جوهريًا في تعرية ازدواجية الخطاب المدني/المليشياوي، عبر المناظرات والتسجيلات والمخاطبات الجماهيرية، فكان اختطافهما بمثابة محاولة لتجفيف منابع المعارضة الحقيقية. ومن هنا نفهم لماذا رافقت الجريمة حملة إعلامية مكثفة، قادها الجناح السياسي للمليشيا، لإعادة صياغة صورتهما في الوعي العام من “قائدين سياسيين” إلى “موضع سخرية وشماتة”، في محاولة يائسة لتبرير ما لا يُبرر.

والسؤال الجوهري الآن: لماذا لم يُثر اختطافهما، حتى بعد تحرير الخرطوم وعودة بعض الأسرى، الاهتمام السياسي والحقوقي المطلوب؟ وهل أُدرج مصيرهما في مفاوضات ما سرية أو علنية، تُدار خلف الكواليس؟

إن هذا الغياب شبه التام للعدالة لا يعكس فقط استهتار المليشيا بالقانون الدولي، بل يكشف أيضًا هشاشة البنية الأخلاقية للمنظومة الدولية التي تصمت حين يُختطف معارضون مدنيون بلا سلاح، بينما تتفرغ لإدانة ما تسميه “خطابات الكراهية” لمجرد أنها تصدر عن المظلومين.
إن استمرار تغييب أنس عمر والجزولي ليس مجرد جريمة ضد شخصين، بل ضد مبدأ المشاركة السياسية السلمية. وهو ما يستدعي مراجعة حقيقية من كل الفاعلين الوطنيين، بمن فيهم الحركة الإسلامية نفسها، التي عليها أن تراجع طريقة تأمينها لقياداتها، في ظل الظروف التي كانت توجب أقصى درجات الحيطة والتنبه والحذر .

فهل أخفقت الحركة في حماية رموزها؟ أم أنها بحكم خبرتها، آثرت التعتيم المؤقت لحماية الرجلين حتى يحين أوان الكشف عن مصيرهم؟ وهل يتم إعداد أحدهما ليكون أحد وجوه المرحلة القادمة، خصوصًا في ظل عودة النداءات لقيادة شبابية مؤمنة بالمشروع الإسلامي؟ كل ذلك يبقى ضمن دائرة الأسئلة و الاحتمالات، ما لم تظهر الحقائق من غياهب الاختطاف.

خلال الحرب اللبنانية، الأهلية (1975–1990) اختفى عدد من القادة السياسيين والميدانيين، بعضهم ظهر لاحقًا بعد سنوات، مثل سمير جعجع الذي سُجن لاحقًا لأسباب سياسية، وأُطلق سراحه بعد اتفاق سياسي عام 2005. كما أُخفي الإمام موسى الصدر في ليبيا عام 1978، ولا يزال مصيره مجهولًا، لكن اختفاؤه شكّل ورقة ضغط سياسي استُغلت لسنوات.

كذلك خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، توارى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حينها، عن الأنظار لأسباب أمنية. لم يُرَ علنًا طيلة فترة الحرب، ثم ظهر لاحقًا بعد انتهاء العمليات ليؤكد على “صمود المقاومة” الدلالة: كانت والغاية من الاختفاء حماية خطاب المقاومة و القيادة السياسية ، دون تعريضها للاستهداف.

هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة يظل مصير أنس عمر ومحمد علي الجزولي معلقًا بين صمت المجتمع الدولي، وتواطؤ بعض القوى السياسية، واستمرار خطاب التشويه الممنهج. لكن الأكيد أن اختطافهما، مهما طال أمده، لن يُطفئ صوت الفكرة، ولن يُغلق باب السؤال المفتوح: أين أنس؟ وأين الجزولي؟ وأين الضمير السياسي في هذا البلد الذي يتطلع فيه السودانيون إلى استعادة الأمن والسلام والسيادة الوطنية ؟
دمتم بخير وعافية.
الجمعة 11 أبريل 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة