جمال عنقرة يكتب تأملات: الحرية والتغيير .. متي يفضون الإعتصام
كنت حتى قبل يومين أحتفظ بأجمل وأدق وصف لانتفاضة رجب أبريل 1985م، قال به صديقنا الراحل العزيز المقدم معاش صلاح عبد العال مبروك، فلما سئل صلاح عن تقييمه للانتفاضة بعد نحو عامين من انطلاقها، قال إن الانتفاضة تشبه قطار كريمة، ينطلق يأخذ المسافرين من المحطات المختلفة، حتى يمتلئ، فلما يصل محطة الخرطوم، تتناوشه “التكاسي” و”البكاسي” ويشتتون شمله، موزعين الركاب بين أحياء العاصمة المختلفة، الحاج يوسف، الكلاكلة، الصحافة، جبرة، أم بدة، اركويت، سوبا، وهكذا، ولا تمضي ساعة زمن واحدة حتى يصير القطار خاويا، وكأنه لم يكن هذا الكائن التي كانت تدب الحياة في كل أوصاله، وظل هذا الوصف عندي هو الأكثر تعبيرا، حتى يوم أمس الأول عندما ذهبنا في معية الأصدقاء الدكتور عبد الوهاب السيسي، وعلم الدين عمر، وعادل إلى الحبيب أحمد الحاج لتقديم واجب العزاء في والده الذي رحل الجمعة الماضية له الرحمة والمغفرة، فوجدنا هناك الأخ الفريق صديق إسماعيل نائب رئيس حزب الأمة القومي، فسأله السيسي عن تقييمه للوضع السياسي الآن، ورؤيته لحل المشكل السوداني، فقال الفريق صديق أن من أعظم مشكلات الحكم، أن بعضا من منسوبي قوي إعلان الحرية والتغيير التي تستمد الحكومة سلطانها منهم، لا يزالون يعيشون بعقلية ميدان الإعتصام، ويريدون للأشياء أن تسير هكذا، فوجدت في ذلك الوصف تشريحا دقيقا لكثير من أسباب ودوافع ما نحن فيه الآن من أزمات.
إن واحدة من أهم مشكلات القوي التي ورثت الحكم بعد سقوط نظام الإنقاذ، أنها لم يكن لديها مشروع للحكم، ولا رؤية لإدارة شؤون البلاد، ويعبر عن ذلك الشعار الذي رفعوه للثورة “تسقط بس” فلما سقطت وقفوا حائرين، لا سيما وأن كثيرين منهم لم تكن بينهم قواسم مشتركة، ولا مشروع واضح المعالم يتوافقون عليه، ويتوحدون حوله، وكان لكل رؤيته ومشروعه، ولم تكن رؤي ومشروعات لإدارة الحكم، بقدرما كانت رؤي ووسائل للسيطرة علي الحكم، وكان ذلك هو السبب وراء كثير من نزاعات وصراعات مكونات قوي إعلان الحرية والتغيير.
ولأن ميدان الإعتصام كان أقوي وأمضي سلاح استخدمته قوي الثورة لإسقاط نظام الإنقاذ، اتخذوه بعد ذلك سلاحا لتصفية الحسابات التي بينهم، وذات الذين كانوا يخرجون إلى الشوارع متظاهرين لإسقاط نظام الإنقاذ، ويغلقون الشوارع، ويقيمون المتاريس، صاروا هم أنفسهم يفعلون ذات الأشياء ضد الحكومة التي أتوا بها، وتحكم باسمهم، وبتفويض منهم، ولم تعد تمر مناسبة أو ذكري من ذكريات الثورة المجيدة إلا ويخرج بعض منسوبي قوي الثورة للتظاهر والتتريس، والهتاف ضد حكومتهم، ولعل آخر ذلك ذكري المحاولة الأولي لفض الإعتصام التي تصادف الثامن من شهر رمضان المبارك، ولا يزال بعض محسوبي الثورة حتى اليوم يغلقون الشوارع، ويحرقون اللساتك.
واحدة من مشكلات هذا المنهج أنها صرفت النظر عن المستقبل تماما، وأسرت الحكومة وكثيرين من منسوبيها في الماضي، لا ينظرون إلى الأمام أبدا، ودعونا نتحدث بصراحة وشجاعة، صحيح أن قتل نفس بغير نفس، أو فساد في الأرض، مثل قتل الناس جميعا، ولكن يجب ألا تقف الحياة لموت فرد أو مجموعة، وصحيح أن الشهداء أكرم من الأحياء جميعا، وأن الدماء الطاهرة التي سالت في درب الثورة منذ الشهيد داود بولاد وحتى الشهيد عبد السلام كشة، ورفقائه من شهداء ثورة ديسمبر المجيدة مطر، وهزاع، وأحمد خير وغيرهم، ومرورا بمن سبقوهم في هذا المسير، ضباط رمضان ال 28، وخليل إبراهيم وغيرهم، هم الذين قدموا دماءهم الطاهرة الذكية مهرا للثورة المجيدة، ولكن الوفاء لهؤلاء الشهداء يكون باستكمال الرسالة التي خرجوا من أجلها، وليس الوقوف عند عتبة واحدة لا يبرحها أدعياء الثورة، هي عتبة القصاص.
للرئيس الرواندي بول كيجامي قول حكيم، لا بد أن نستفيد منه، ومعلوم أن العاصمة الرواندية كيجالي التي شهدت مقتل مئات الآلاف، وكانت الجثث تبقي في الشوارع حتى تتعفن، هي الآن من أنظف وأجمل العواصم العالمية، فقال الرئيس كيجامي أنهم لم يحققوا ذلك لعبقرية شعب، ولا لتميز قيادة، ولكنهم حققوا ذلك، ويطمحون إلى المزيد، لأنهم رموا التاريخ واحداثه خلف ظهورهم، وصاروا ينظرون جميعا إلى الأمام، إلى المستقبل، وما لم نفعل ما فعلوا، وننظر إلى الأمام، ونخرج من أسر ميدان الإعتصام لن نتقدم قيد أنملة، وقديما قال أهلنا كترة التلفت بتوقع.