عمار العركي .. يكتب: القصر الجمهوري والنصر الجهوري: حيث يسقط الطغاة… من غردون إلى حميدتي

▪️ عندما يُكتب تاريخ السودان ، سيقف القصر الجمهوري في الخرطوم شاهدًا على لحظات فاصلة، حيث سقط الطغاة، وتعالت رايات السيادة، وسُطّرت ملاحم التحرير. فهو ليس مجرد مبنى إداري، بل هو رمزٌ تتكثف فيه معاني الكرامة الوطنية، ومسرحٌ تتوالى عليه فصول الصراع بين الحق والباطل، وبين الشرعية والفوضى، وبين الإرادة السودانية وأوهام الهيمنة والاستبداد.

▪️ وكما شهد القصر سقوط الحاكم البريطاني غردون باشا تحت ضربات الثورة المهدية في عام 1885، فقد عاد ليشهد اليوم إسدال الستار على أسطورة أخرى، حيث انتهت مغامرة محمد حمدان دقلو (حميدتي) عند أعتابه، وسقط مشروع المليشيات كما سقط الاستعمار من قبل. إنه القصر الذي لا يقبل الغزاة، ولا ينحني للمتسلطين، بل يظل حُرًّا، كما يريده السودانيون.

▪️ في صباح يوم 26 يناير 1885، كانت جثّة غردون باشا ممددة عند بوابة القصر الجمهوري، بعدما اجتاحه الأنصار في ملحمة أنهت حقبة الحكم (التركي-المصري) والاستعمار البريطاني في السودان. كانت تلك لحظة فارقة، حيث انتصر السودانيون على أقوى إمبراطوريات العصر، وأثبتوا أن الإرادة الوطنية لا تُقهر.

▪️ واليوم، بعد 140 عامًا، يعود المشهد نفسه،* لكن هذه المرة مع رجل آخر، اعتقد أن السلاح والمال الإقليمي يمكن أن يمنحه سلطة بلا شرعية، وقوة بلا دولة، فواجه المصير ذاته. لقد ظن (حميدتي) أنه قادر على تكرار نموذج أمراء الحرب، وأنه يستطيع فرض واقع جديد بالدمار والنهب والترويع، لكن السودان كان له رأي آخر. وكما سقط (غردون)، فقد جاء تحرير القصر الجمهوري ليكون دقًّا لآخر مسمار في نعش مشروع (حميدتي)، وإعلانًا قاطعًا بأن السودان لا يُحكم بالمرتزقة، ولا يُباع للمغامرين.

▪️تحرير القصر الجمهوري ليس مجرد مكسب عسكري، بل هو إعلان لاستعادة الدولة لهيبتها، وإعادة تثبيت ميزان الشرعية الوطنية. فعلى مدى الأشهر الماضية، كان القصر الجمهوري تحت قبضة المليشيات، في مشهد بدا وكأن السودان قد فُقد إلى الأبد. ولكن في 21 مارس 2025، تغير كل شيء. الجيش السوداني، المدعوم بإرادة الشعب، أطلق نداء التحرير، وسحق فلول التمرد، واستعاد رمز السيادة من أيدي من حاولوا تدنيسه.

▪️ لم يكن هذا مجرد نصر عسكري، بل هو رسالة وطنية واضحة ، أن السودان لا يُحكم إلا بإرادة أبنائه، وأن محاولات فرض واقع جديد بالقوة لن تمر. إنه استعادة لروح الدولة السودانية، التي حاول (حميدتي) طمسها، لكنه انتهى كما انتهى (غردون)، مجرد ذكرى في صفحات الهزيمة.

■ البعد الاستراتيجي: ما بعد تحرير القصر ■

▪️ تحرير القصر الجمهوري لا يمثل فقط انتصارًا ميدانيًا، بل هو نقطة تحول استراتيجية ترسم ملامح السودان في المرحلة القادمة. فالسودان الذي استعاد قلب عاصمته، استعاد معها زمام المبادرة، وبدأ يفرض قواعد جديدة للمعادلة الداخلية والإقليمية، حيث تتجلى ثلاثة أبعاد رئيسية لهذا الحدث:

▪️ استعادة السيطرة المركزية للدولة:
لطالما كان احتلال القصر الجمهوري من قبل المليشيات رسالةً خطيرةً بأن الدولة المركزية قد تفككت، وأن السودان يعيش حالة “فراغ السلطة”. لكن استعادته تعني أن زمام الأمور عاد إلى الدولة الشرعية، مما يعيد ضبط ميزان القوى ويعيد ترميم مؤسسات الحكم. فالسيادة ليست مجرد شعار، بل هي القدرة الفعلية على فرض الأمن والقانون، وهو ما بدأ يتحقق على أرض الواقع.

▪️ انهيار مشروع التمرد واستعادة زمام المبادرة:
بعد سقوط القصر الجمهوري، لم يعد التمرد قوة يمكنها أن تدّعي السيطرة أو التفاوض من موقع قوة. تحرير القصر هو إعلان صريح بأن ساعة الحسم قد دنت، وأن الخيارات أمام المتمردين أصبحت محدودة بين الاستسلام أو الهزيمة الكاملة. كما أن هذا الانتصار يعزز موقف الجيش السوداني في أي مسار تفاوضي قادم، حيث يدخل وهو المنتصر، مما يقلص أي فرصة لمحاولات فرض حلول تُبقي المليشيا كطرف شرعي في المعادلة السياسية.

▪️الرسائل الإقليمية والدولية:
السودان يفرض كلمته بتحرير القصر الجمهوري، ويرسل رسالة واضحة لكل الأطراف الإقليمية والدولية التي راهنت على استمرار الفوضى في السودان، بأن مشروع زعزعة الدولة قد فشل، وأن أي محاولة لإعادة إنتاج المليشيات تحت أي غطاء سياسي أو تفاوضي لن تُقبل. كما أن هذا النصر يعيد للسودان مكانته كدولة قوية قادرة على الدفاع عن سيادتها، ويفرض واقعًا جديدًا يجعل أي تدخل في شؤونه أكثر صعوبة.

■ القصر مقبرة الغزاة…لا يرحم ■

▪️ لقد أثبت السودانيون ، مرة أخرى، أن القصر الجمهوري ليس مجرد مبنى، بل حصنٌ تتحطم عنده أوهام الطغاة، ومعقلٌ يولد منه السودان في كل مرة يحاول المغامرون العبث به. وكما سقط غردون باشا تحت ضربات الوطنيين، سقط حميدتي تحت ضربات الجيش والشعب، وانتهت معه حقبة المليشيات كما انتهى الاستعمار من قبل.

▪️ هذا القصر، الذي لم يُفتح إلا بإرادة السودانيين، لا يُؤخذ بالسلاح، ولا يُحتل بالمرتزقة، بل يظل شامخًا، كرمزٍ للسيادة والكرامة، لا يُسلم إلا لمن يملك شرعية الوطن والتاريخ. فمن أراد أن يتحدى السودان في عقر داره، فليقرأ التاريخ، وليستعد للسقوط في ذات المكان… تمامًا كما سقط غردون، وتمامًا كما سقط حميدتي!

▪️ لقد أُسدلت الستائر على واحدة من أكثر الفصول دمويةً في تاريخ السودان الحديث، حيث انتهت مغامرة المليشيات في قلب الخرطوم عند أعتاب القصر الجمهوري. هنا، في هذا المكان الذي لطالما كان مسرحًا لصراع الإرادة الوطنية ضد مشاريع الاستبداد والاستعمار، أثبت السودانيون مجددًا أن القصر لا يُسلم إلا لمن يستحق، وأنه سيظل رمزًا للسيادة التي لا تُغتصب ولا تُباع.

■ ما بعد تحرير القصر: مرحلة تثبيت السيادة وإعادة البناء ■

▪️ إذا كان سقوط القصر الجمهوري في يد التمرد قد مثل بداية أخطر تحدٍ وجودي للدولة السودانية، فإن تحريره اليوم يمثل نقطة الانطلاق نحو استعادة الدولة وإعادة ترتيب المشهد الوطني. لكن المرحلة القادمة ليست أقل تحديًا، بل قد تكون أكثر تعقيدًا، حيث تفرض التطورات الراهنة عدة استحقاقات يجب التعامل معها بوعي وصرامة، لضمان استثمار النصر عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

▪️ استكمال عملية الحسم العسكري:
تحرير القصر الجمهوري يجب أن يكون مقدمة لإنهاء التمرد كليًا، وليس مجرد استعادة رمزية لموقع استراتيجي. فالعدو لا يزال يمتلك جيوبًا في بعض المناطق، ويحاول إعادة تجميع صفوفه بدعم خارجي، مما يفرض على القيادة العسكرية تكثيف العمليات الهجومية وعدم منح أي فرصة للتنفس للمليشيات. يجب أن تكون هذه اللحظة هي بداية النهاية الحتمية، حيث يتم تأمين الخرطوم بالكامل، ثم التوجه لحسم المعارك في باقي المناطق التي لا تزال تشهد وجودًا لمليشيا آل دقلو.

▪️ إعادة ترميم مؤسسات الدولة وإعادة فرض القانون:
تحرير القصر ليس مجرد حدث عسكري، بل هو استعادة للمركز العصبي للدولة، مما يتطلب إعادة بناء مؤسسات الحكم وإعادة فرض القانون بصرامة. فالسودان لا يمكن أن يظل رهينة لفوضى الحرب، ويجب أن تبدأ مرحلة إعادة تأهيل مؤسسات الدولة، من الوزارات السيادية إلى الأجهزة الأمنية، بما يضمن تحقيق الاستقرار ومنع أي محاولات مستقبلية لإعادة إنتاج سيناريو الفوضى.

▪️ حسم الملفات الإقليمية والدولية وفق معادلة جديدة :
لقد راهنت بعض الأطراف الإقليمية على استمرار الحرب كوسيلة لإضعاف السودان وإبقائه ساحة نفوذ وصراع، لكن تحرير القصر الجمهوري يفرض معادلة جديدة تجعل هذه الرهانات فاشلة. المرحلة القادمة تتطلب إعادة تعريف العلاقات الخارجية وفق ميزان قوة جديد، حيث يُفرض السودان كدولة قادرة على الدفاع عن سيادتها، ويفرض إرادته على أي محاولات لإملاء شروط من الخارج. يجب أن يكون هذا الانتصار فرصة لتعزيز الشراكات الاستراتيجية التي تحترم سيادة السودان، وقطع الطريق أمام أي محاولات لإعادة إنتاج المليشيات بغطاء سياسي أو تفاوضي.
▪️المصالحة الوطنية وفق رؤية وطنية لا تخضع للابتزاز :
بعد انتهاء المعارك، سيطرح البعض ملف المصالحة الوطنية كمدخل لإعادة إدماج بعض القوى في العملية السياسية. لكن هذا الملف يجب أن يُدار بحذر، وبشكل يضمن أن لا يتحول إلى بوابة لإعادة إنتاج التمرد تحت مسمى التسوية. المصالحة الوطنية لا يمكن أن تعني مكافأة من حمل السلاح ضد الدولة، بل يجب أن تكون عملية سياسية تُبنى على أسس العدالة والمساءلة، بحيث يتم التفريق بين من أخطأ بحق الوطن ومن ارتكب جرائم لا يمكن التسامح معها.

خلاصة القول ومنتهاه:
▪️ من القصر تبدأ استعادة الدولة ، تحرير القصر الجمهوري ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو إعلان بأن السودان استعاد هيبته وسيادته، وأن مشروع الفوضى الذي حاولت بعض الأطراف فرضه قد انتهى. فقد أثبت الشعب السوداني مرة أخرى أنه لا يُقهر، وأنه قادر على استعادة سيادته مهما كانت التحديات.
▪️ يجب على السودان الآن أن يركز على بناء مؤسسات دولة قوية، تمثل الشعب وتحترم إرادته، وأن يعمل على إعادة التوازن الداخلي والخارجي عبر تعزيز القوات المسلحة، وتأهيل الأجهزة الأمنية، وكذلك استعادة الثقة في الحكومة المركزية. من الضروري أن يُستغل هذا الانتصار لدفع العملية السياسية نحو الأمام، مع ضمان محاسبة كل من ارتكب جرائم بحق الشعب السوداني، سواء في فترة الحرب أو قبلها.
▪️ إقليمياً ودولياً، ينبغي أن يتبنى السودان سياسة خارجية مستقلة، توازن بين تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى، وفي نفس الوقت تحافظ على استقلاله في مواجهة أي محاولات للتدخل الخارجي. استعادة القصر الجمهوري ليست نهاية المعركة، بل هي بداية مرحلة جديدة من العمل الجاد لاستعادة السودان قوته ودوره الفاعل في المنطقة والعالم.
▪️ من القصر، الذي شهد لحظات هامة في تاريخ السودان، يبدأ اليوم عهد جديد. عهدٌ ينبني على قوة الإرادة الوطنية، ويستمد عزيمته من الانتصارات التي تحققها الدولة والشعب معًا، ليواصل السودان مسيرته نحو الاستقرار والنماء.

مقالات ذات صلة