وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : استرداد القصر معركة السيادة وإعادة رسم المشهد

في فجر الجمعة الحادي والعشرين من مارس 2025، دخل السودان مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر، بإعلان القوات المسلحة السودانية تحرير القصر الجمهوري من قبضة مليشيا الدعم السريع. لم يكن هذا الحدث العسكري مجرد عملية ميدانية ناجحة، بل لحظة مفصلية تحمل بين طياتها أبعادًا استراتيجية وسياسية عميقة، من شأنها أن تعيد صياغة موازين القوة في السودان، وترسم ملامح مستقبل الدولة السودانية بعد عامان من الحرب الوجودية

منذ انطلاق العمليات العسكرية في 15 أبريل 2023، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادتها مليشيا الدعم السريع وداعميها المحلين و الإقليميين رسمت القوات المسلحة خطتها وفق استراتيجية محكمة تقوم على استنزاف قدرات العدو وعزلها ميدانيًا. بلغ هذا التكتيك ذروته مع عملية “العبور الكبرى” في سبتمبر 2024، والتي تم فيها تثبيت السيطرة على محاور العاصمة، بدءًا من جسر الحلفايا، وجسر النيل الأبيض مرورًا بجسر الإنقاذ، وصولًا إلى تأمين جسور كوبر والنيل الأزرق لاحقا .

اعتمد الجيش السوداني على تكتيك الإطباق من أربعة محاور رئيسية، حيث تحركت وحدات المدرعات والمشاة من المعاقيل و كرري وحطاب شمالًا، ومن النيل الأبيض نحو جبل أولياء جنوبًا، فيما تكفلت القوات القادمة من سوبا العيلفون بإغلاق الجبهة الشرقية. هذه الكماشة المحكمة حولت المليشيا إلى جيب معزول داخل العاصمة، فاقدةً القدرة على الإمداد والمناورة.

فجر الخميس 20 مارس، حاولت مليشيا الدعم السريع كسر الطوق الأمني والعسكري المضروب حول القصر الجمهوري، فدفعت بقواتها عبر محور المريديان – معمل استاك بشارع القصر، مستهدفة فتح ممر للهروب وإعادة التموضع. إلا أن الجيش كان يراقب تحركاتها بدقة، ليغلق عليها المسافة صفر في واحدة من أعنف المعارك بالعاصمة.

الجيش اعتمد خطة محكمة استخدم فيها الطيران المسيّر والمدفعية طويلة المدى، تزامنًا مع اندفاع وحدات الاقتحام مستفيدا من التحام قواته القادمة من المدرعات مع القيادة العامة، ما أدى لتحييد 32 عربة قتالية مدججة بكامل أطقمها وقواتها، فانهارت دفاعات المليشيا تمامًا.

وفي ذات اليوم ومع تقدم الجيش على المحور، تدخل الطيران المسيّر مجددًا ليتم تحييد قائد المليشيا المتحصّن داخل القصر ” اللواء محمد احمد جالي “، في ضربة قاضية أنهت ما تبقى من قدرتهم على إدارة المعركة، ومهّدت لتحرير القصر، معلنة بداية الانهيار الكامل للمليشيا بالعاصمة، ليتسع بعدها نطاق سيطرة الجيش حول محور القصر ليشمل العمارة الكويتية ومبني الحكم الاتحادي وزارة الخارجية وشارع النيل وجسر المك نمر.

عشية الجمعة بدأ الجيش السوداني عمليات دقيقة على مستوى “المسافة صفر”، مستفيدًا من تفوقه الجوي والمدفعي، ومسنودًا بوحدات النخبة من القوات الخاصة والمستنفرين من لواء البراء ، فيما أُغلقت كل طرق الإمداد بشكل محكم وقطع شبكة الاتصال . بدت المليشيا كمن وُضع في كماشة فولاذية، لا مهرب منها سوى الانهيار.

وبتحرير القصر الجمهوري، لم يعد الحديث عن انتصار تكتيكي محدود، بل عن بداية تفكيك كامل لما تبقى من هياكل مليشيا الدعم السريع في العاصمة، وفرض سيطرة الجيش على المؤسسات السيادية والحيوية للدولة.

في السياق السياسي، يمثل تحرير القصر الجمهوري أكثر من استعادة جغرافية. فالقصر بما يمثله من رمزية سيادية، كان الهدف الأول لمليشيا الدعم السريع لإضفاء شرعية على انقلابها، ومحاولة فرض أمر واقع بدعم إقليمي ودولي. كسر الجيش لهذا السيناريو يعكس صمود الدولة الوطنية السودانية في وجه محاولات الهيمنة، ويرسل رسالة واضحة: لا تسويات على حساب السيادة السودانية .

استعادة القصر الجمهوري تؤسس لمرحلة جديدة، حيث تنتقل الدولة من وضعية الدفاع إلى فرض الاستقرار وبسط الأمن، بما يمهد للانتقال السلس نحو مشروع الدولة الوطنية التي يقودها الجيش السوداني بوعي وحكمة وحنكة تقفل الطريق أمام أي ابتزاز محتمل من القوي السياسية التي ادخلت البلاد بخلافاتها ومغامراتها في هذه الحرب التي اذاقت السودانيين الويلات وادخلتهم في الحريق ، فعليها أن تراجع حساباتها وتنتظر الانتخابات بعد 39 شهر بحسب الوثيقة الدستورية للعام 2025، لنرى ماذا ستقدم للسودانيين، إلى ذلك الحين البلاد في انتظار حكومة الكفاءات الوطنية المستقلة بحسب خارطة الطريق التي تم التوافق عليها ووجدت قبول من الشعب السوداني والمجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية والدولية .

إن سيطرة الجيش على القصر فتحت الباب واسعًا أمام استكمال تحرير الوزارات والمؤسسات السيادية، وتأمين العاصمة بشكل كامل. التحركات العسكرية المتسارعة، التي شملت مناطق شروني وأبراج النيلين زنادي الأسرة وشارع كاترينا، تعكس توجهًا واضحًا لتصفية آخر جيوب المليشيا، خصوصًا في جنوب الخرطوم وشرق النيل. الواقع على الأرض اليوم، يُظهر بجلاء أن صفحة الفوضى تُطوى، والجيش ماضٍ لاستكمال مهامه حتى تعود مؤسسات الدولة إلى كامل جاهزيتها، وهو ما يتطلب من الجميع، لا سيما الوزارات وموظفي الدولة الاستعداد للعودة إلى مواقعهم بعد عطلة عيد الفطر المبارك، لمباشرة العمل في الخرطوم المحررة.

أحداث استرداد القصر الجمهوري بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة ستُسجل في الذاكرة السودانية كمعركة للسيادة الوطنية بامتياز، حيث أثبت الجيش السوداني أنه ليس مجرد مؤسسة عسكرية، بل صمام أمان للدولة السودانية في وجه محاولات اختطافها. وإذا كان هذا النصر قد تحقق بفضل التخطيط العسكري المحكم والتكتيك الميداني المتقن، فإن ما يترتب عليه سياسيًا يتجاوز حدود العاصمة، ليؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الأبرز السودان للسودانيين، بلا مليشيات ولا وصاية خارجية.
دمتم بخير وعافية.
الجمعة 21 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة