من أعلي المنصة ياسر الفادني القضارف.. حينما يبكي النازح ويُبكي المودعون!
![](https://www.atheernews.net/wp-content/uploads/2025/02/IMG_3972.png?v=1738844672)
في زاوية من زوايا المسجد الأخضر بحي الملك شرق، كما يحلو للكثيرين تسميته، ومع تنفس الصبح في صلاة مقبولة بإذن الله، شهدت مشهدًا من أعمق المشاهد إنسانية وتأثيرًا. وقف نازح مخاطبًا جموع المصلين ليودعهم ممثلًا لذويه، بعد فترة قضاها بينهم، ليؤدي واجب الشكر. ولسان حاله يقول: “شكرًا لأهل القضارف، لأهل الخير والكرم، لأولئك الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم قبل أن يفتحوا أبواب مساجدهم.”
وقف هذا النازح تتقطر منه دموع الوداع، وفي عينيه امتنان أكبر من الكلمات. ووقف معه أهل الحي عناقًا وبكاءً، أولئك الذين حضنوه وأهله في محنتهم، لا كغرباء، بل كأبناء، كإخوة في الدين والوطن والإنسانية.
في تلك اللحظة، لم يكن الدمع مجرد ماء ينهمر، بل كان شهادة حية على نقاء النفوس وعظمة الأخلاق، على أن الإحسان ليس مجرد فعل، بل هو شعور عميق، امتداد لقيم متجذرة في تاريخ هذا الشعب العظيم. لم يكن ما قدمه أهل القضارف مجرد إغاثة عابرة، بل كان درسًا في الكرم الحقيقي، في الإيثار الذي لا ينتظر مقابلًا، في التراحم الذي يجعل الإنسان ينسى ذاته ليمنح غيره دفئًا في ليالي البرد وأمانًا في زمن الخوف، ولعلني أحد الذين عاشوا ذلك واقعًا.
القضارف لم تكن مجرد محطة عبور، بل كانت بيتًا وسكنًا وملاذًا، كانت أيادي ممدودة بالخير، وكانت قلوبًا تتسع للجميع. في زمن الحرب، الذي جرد كثيرين من إنسانيتهم، وقف أهل هذه المدينة ليقولوا: “لن تسقط قيمنا، لن تسقط أخلاقنا، سنظل نكرم الضيف، نحترم الجار، نداوي الجراح، ونمسح دموع الضعفاء.”
هذه الحرب، التي حاولت أن تكسر السودان، أظهرت في ذات الوقت معدن إنسان القضارف النفيس. أظهرت كيف يمكن للناس، رغم المحن، أن يكونوا ملائكة تمشي على الأرض. وكما كان أهل القضارف مثالًا للكرم، أصبح الشعب السوداني معلمًا في الإنسانية، يلقن العالم دروسًا في كيف يكون الإحسان، وكيف يبقى الخير صامدًا رغم العواصف.
حين ودّع ذلك النازح الذين أكرموه، لم يكن الفراق سهلًا، لكنه كان مفعمًا بالأثر، كان محملًا بالحب، كان وداعًا جسديًا فقط، لأن القلوب ستظل متصلة، ولأن الجميل لا يُنسى، ولأن الكرم الحقيقي هو الذي يترك أثرًا لا تمحوه الأيام. في زمن الحرب، أثبت أهل القضارف أن هناك حربًا أخرى يجب أن نخوضها، حربًا ضد القسوة، ضد الأنانية، ضد الجفاف الروحي، وقد انتصروا فيها انتصارًا عظيمًا.
إني من منصتي أنظر… حيث أرى… أن ما حدث في القضارف ليس مجرد موقف، بل هو صفحة مضيئة في كتاب الإنسانية، درس للأجيال، شهادة على أن السودان سيظل وطنًا يتسع للجميع، مهما اشتدت المحن، ومهما حاولت الأيام أن تثقل كاهله بالجراح. إذن، عندما تسمع اسم “القضارف”، فاعتبر أنك وسط أهلك وعشيرتك.