وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي خطاب البرهان : هل يدخل السودان مرحلة جديدة ؟

في خطوة تشير إلى قرب انتهاء الحرب ، يسعى رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى التأسيس لمرحلة جديدة من الاستقرار والسلام عبر المبادرات السياسية . إلا أن هذا التحول لا يخلو من التحديات ، الخطاب الذي ألقاه البرهان أمس في ختام مشاورات القوى السياسية الوطنية حول خارطة الطريق للحوار السوداني الذي يشير إلى سلسلة من الرسائل التي تعكس التحولات الاستراتيجية حول قضايا أساسية ، خاصة فيما يتعلق بموقفه من السلام و تنسيقية القوى المدنية تقدم و المؤتمر الوطني والمليشيات المسلحة . ودور الجيش في المرحلة المقبلة في هذا المقال نحاول أن نقرأ هذا الخطاب بالنظر إلى التداعيات التي أحدثها في الساحة السياسية .

منذ اندلاع الحرب حرص البرهان على تقديم نفسه كقائد وطني يقود معركة الدفاع عن الدولة ، وهو ما تجلّى في افتتاحية خطابه التي بدأها بالترحم على شهداء السودان من المدنيين والعسكريين . هذه الإشارة تعكس تأكيده على أهمية بسط الأمن والاستقرار ، لكنها تحمل أيضًا بُعدًا سياسياً ، حيث يسعى إلى ترسيخ صورته كزعيم قادر على إدارة مرحلة ما بعد الحرب .

ما يعزز هذا الطرح هو حديثه عن ضرورة تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة تقود عملية إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد واستكمال بناء المؤسسات العدلية . هذه الفكرة تلقى دعمًا من القوى السياسية التي تخشى هيمنة الأحزاب على الفترة الانتقالية ، لكن تبقى الإشكالية في مدى قدرة هذه الحكومة على العمل بعيدًا عن تأثير المؤسسة العسكرية ، خصوصًا في ظل تجارب سابقة أظهرت أن تدخل الجيش في السياسة غالبًا ما يؤدي إلى انسداد في الأفق الديمقراطي . هذا رغم الضمانات التي قدمها البرهان بان الحكومة القادمة سوف تكون لها كامل الصلاحية في تكوين هياكلها إذا رأت تكوين مجالس استشارية .

أحد أكثر الجوانب إثارة للجدل في خطاب البرهان كان دعوته لفك الحظر عن تجديد جوازات سفر للمعارضين ، وفتح الباب للمصالحة مع من “يعودون إلى الصف الوطني”، في إشارة إلى قوى مثل “تقدم” والحزب الشيوعي وحزب البعث بقيادة علي الريح السنهوري ، وسط تسريبات عن عودته بجانب بعض القيادات إلى البلاد خلال الايام القادمة .

هذا التحول يبدو متناقضًا مع مواقف البرهان السابقة ، التي كانت ترفض أي تقارب مع من دعموا المليشيات المسلحة أو كانوا سببا في التخطيط للانقلاب الذي أفضى للحرب . فبينما يرفض التفاوض مع من حملوا السلاح ، يفتح الباب أمام داعميهم للعودة إلى المشهد السياسي . هذا التذبذب قد يضعف منطق العدالة الانتقالية ، حيث تتطلب أي مصالحة وطنية وضوحًا في المبادئ والمعايير ، خاصة في ظل مطالبات واسعة بمحاسبة المتورطين في انقلاب الدعم السريع أو الانتهاكات خلال الحرب .

كذلك أكد البرهان خلال خطابه أن تعديل الوثيقة الدستورية التي ستحكم المرحلة الانتقالية أصبحت في مراحلها النهائية ، مما يعني اقتراب السودان من مرحلة انتقالية جديدة . غير أن غياب تفاصيل واضحة حول مضمون هذه التعديلات للوثيقة وآليات تنفيذها يثير تساؤلات حول مدى شموليتها ، خاصة أن القوى السياسية المختلفة لها رؤى متباينة بشأن طبيعة الفترة الانتقالية والفترة الزمنية التي يمكن التوافق عليها .

كما شدد البرهان على أن الديمقراطية هي الخيار الوحيد لضمان الاستقرار ، داعيًا القوى السياسية إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع . لكن هذه الدعوة تتطلب بيئة سياسية مستقرة ، وتحضير جيد وهو ما لا يمكن تحقيقه دون إنهاء الحرب وضمان عدم استغلال لموارد الدولة للتحكم في نتائج الانتخابات من أي طرف من الأطراف .

كذلك لم يرفض البرهان خلال خطابه فكرة وقف اطلاق النار والسلام مشترطا على المليشيا الخروج من الخرطوم وفك الحصار عن الفاشر وبابنوسة وغيرها ، الملاحظ أنه لم يتحدث عن تنفيذ اتفاق جدة أو أي عودة محتملة للمفاوضات . كذلك قال لا نريد للمقاتلين أي صفة سياسية ، وإنما القتال من أجل السودان ، ولن نقبل بأي مقاتلين يقاتلون تحت راية حزبية في ذلك إشارة إلى الشباب المستنفرين الذين يقاتلون مناصرة لقضية الدين والوطن ونصرة الجيش .

في خطابه وجّه البرهان انتقادات حادة للمؤتمر الوطني ، بالرغم من أنه دعاه ضمن الأحزاب السودانية إلى انتظار الانتخابات متهمًا إياه ” بالسعي للسلطة على أشلاء السودانيين” ، وهو ما أثار جدلًا واسعًا لا سيما في وسط أنصاره الذين عبروا عن استيائهم ، حيث أصدر المؤتمر الوطني تصريحا صحفيا عشية حديث البرهان أوضح فيه موقفة مجدد من مسألة الحكم التي ترتبط عنده بالانتخابات كوسيلة شرعية للوصول للسلطة واحتفظ لقائد الجيش رأس الدولة بمكانته القيادية وأكد دعمه للمؤسسة العسكرية ، موكدا أن المرحلة تقتضي وحدة البلاد ووحدة الصف .

من الواضح أن البرهان يسعى إلى تقديم نفسه كرجل دولة غير محسوب على أي تيار سياسي وهذا جيد ، لكن تجاهل الدور السياسي للإسلاميين قد يكون مغامرة غير محسوبة ، بالنظر إلى تأثيرهم التاريخي في المشهد السوداني . التجارب الإقليمية، مثل التجربة التونسية والمصرية بعد 2011 أظهرت أن تهميش الإسلاميين دون توافق وطني شامل قد يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب وعدم الاستقرار .

خطاب البرهان يعكس محاولات لتحقيق توازن بين التمسك بالسلطة والتصالح مع القوى المعارضة ، لكنه يفتقر إلى الوضوح في بعض القضايا الرئيسية ، مثل آليات إنهاء الحرب ، التي ظل يؤكد أنها عبر الحسم العسكري، ومستقبل القوات المسلحة في السياسة الذي ينتظر أن تعالجه الوثيقة الدستورية ، بجانب ضمانات التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.

في نهاية المطاف وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة ، يظل الشعب السوداني هو الفاعل الرئيسي في تحديد مسار البلاد . إذا أُريد لهذا التحول أن يكون حقيقيًا ومستدامًا ، فيجب أن يرتكز على رؤية وطنية شاملة تُحقق العدالة ، وتضمن المشاركة السياسية الفاعلة للجميع ، وتُبعد السودان عن دوائر الصراعات الصفرية . المرحلة المقبلة لا تحتاج فقط إلى خطاب سياسي ، بل إلى إجراءات ملموسة تُعيد ثقة السودانيين في مستقبلهم ، بعيدًا عن التناقضات التي قد تُعرقل عملية الانتقال .
دمتم بخير وعافية .
الأحد 9 فبراير 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة