كتب / سيف الدين حسن بابكر : غيرة الأدباء -سرديات ..-الزاكي عبد الحميد أحمد-
*اليون* هي عاصمة طروادة واستمد منها هوميروس الالياذة؛ الملحمة الشعرية التي تناولت الحرب التي دارت بين اليونانيين وطروادة نحو عشر سنوات..ابطال هذه الملحمة مستوحون من الواقع اليوناني العادي..أناس عاديون يتحدثون بلغة مجتمعهم دون تنطع..
وكذلك هي قرية ود حامد..
إنها مسرح الأحداث لكل أعمال الطيب صالح..ود حامد هي الشيء الوحيد الثابت بما تكتنز من رمز لعالم البراءة والعلاقات الدافئة المعافاة والوشائج الانسانبة الفطرية..
ثبات *قرية ود حامد* كمسرح للأحداث فسرت رغبة الطيب صالح في تأليف إلياذة بنفس الطريقة التي حفّزت *إليون* هوميروس على تأليف الالياذة Iliad..
التقينا بالراحل المقيم الطيب صالح ذات عام في فندق السيب نوفوتيل في العاصمة العمانية وسألناه عن ثبات قرية ود حامد في أعماله فقال: *إنني منذ بدأت أكتب؛ حاولت أن أصنع ميثولوجيا..أقدم فيها فلاحين بسطاء في قرية سودانية وكأنهم شخصيات ملحمية في الإلياذة..حاولت أن أصنع إلياذة على طريقتي..إن أبطال إلياذة هوميروس مستوحون من الواقع اليوناني..أهل ود حامد مثلهم يستحقون إلياذة..لِمَ لا؟*
ثم كان صلاح..
*وعُريتُ عن مهجتي والضلوع،*
*وقلتُ: جياع بلادي* *هلموا وهاتوا القصاع*
*إلى النار واشووا..*
*ومِدِّوا قِراكم لضيف الهجوع..*
هذا *صلاح أحمد ابراهيم* في قصيدة *خطاباتكم* في ديوان *غضبة الهبباي*.
الكفّان مضمومتان، والأصابع إلى أعلى تكاد تلامس أرنبة الأنف، والإبهامان نحو الصدر تشيران….
*نماستي* Namaste… هكذا حيَّتْنا الطفلة الهندية-بانحناءة تقدير- وبدت كأجمل ما يكون جمال الأطفال يوم العيد، وهي ترتدي زيها التقليدي المميز باسورة واقراط بلاستيكية ومعدنية زاهية الالوان، وأطلّت علينا من خلف الأستار تستهل تلك الأمسية التي حُظيت بحضورها..
*سرينيفاسا* صديقٌ هنديٌّ، عملنا معا في مؤسسة اعلامية في الخليح..واسع الثقافة لا سيّما في الموروثات الشعبية في بلاده..كثيرا ما حدثني عن ثراء الموروث الشعبي في أقاليم الهند المختلفة. وجّه لي هذه الدعوة، بصفته عضوا في مجلس الادارة، لحضور أمسية ثقافية في نادي الجالية الهندية، وهو احد اعرق اندية الجاليات في سلطنة عمان. تمحورت الفعالية حول توظيف الموروث الشعبي في الشعر والادب والرقص في اقليم *تاميل نادو* وهو احد الاقاليم الجنوبية في الهند…
كان الحضور كبيرا وكان التفاعل مع الرقصات اكبر..ناولني صديقي سرينيفاسا -وينادونه اختصارا ب “سري”- ورقة تشرح باللغة الانجليزية وبايجاز، مغازي وايحاءات الرقصات التي تؤديها الراقصات بمهارة فائقة على المسرح..
كل حركة تؤديها الراقصة اثناء الرقص، تجسد موروثا شعبيا للاقليم وتشعل الحضور حماسا..
الورقة التي بين يدي، اشارت إلى العديد من الاقتباسات لمفكرين هنود ك *طاغور* و *راهول مانيش* واوربيين كالشاعر والناقد الامريكي-الانجليزي المعروف *تي أس إليوت* T.S. Eliot حول اهمية توظيف المفردة المحلية في الكتابة الابداعية..
وجدتُ لاحقاً ان الاقتباس ذكره الشاعر الامريكي-الانجليزي في مقال نشره بعنوان:
Tradition and the Individual Talent..
و *إليوت* في مقاله يرى أن ولاء الشاعر الأول يجب أن يكون للغة التي يرثُها من الماضي، والتي يجب أن يحافظ عليها وينمّيها..والشعر بطبعه أكثر دقةً وغنىً وقوةً من النثر، وهنا تظهر قيمة الإيحاء والكلمة الحبلى التي تعبر عن المكنون وتنشر الظلال؛ قيمة الكلمة ذات النكهة الخاصة ، التي تجعل الشاعر مرتبطا بالتناول الشعبي الخلّاق للغة..و *صلاح أحمد ابراهيم* يقول في مقدمته لديوان *غضبة الهبباي*، علينا ان نعترف ب *المعاني الجديدة للكلمات القديمة* وان نستلهم الخيال الدارج..وقد مكنه ذلك من ابتداع أسلوب فني يتجلى في تناوله لبعض التعابير والكلمات الشعبية ولعل الابيات التي اوردتٌها من قصيدة *خطاباتكم* في صدر المقال تقف خير شاهد:
*وعُريتُ عن مُهجتي والضلوع*
*وقلت: جياع بلادي* *هلمّوا وهاتوا القصاع*
*إلى النار وأشووا..*
*ومدوا قِراكم لضيف الهجوع..*
وعبارة *ضيف الهجوع* تشدُّنا إلى المتكأ والموروث الشعبي في الأغنية التراثية:
*أوصيكم على ضيف الهجوع عشو…*
وفي عام ١٩٨٦ قالت اللجنة المشرفة على *جائزة نوبل للأدب* إن المسرحي والشاعر النيجيري *شوينكا* باستخدامه الذكي لمفردات موحية من لهجة قبيلته في اعماله التي يكتبها بالانجليزية، استحق الجائزة عن جدارة..ونسبت الصحف لشوينكا حينها قوله إن اللغة الإنجليزية تقف عاجزة أحياناً، عن تعبير ما أريد قوله بلهجة قبيلة اليوربا، قبيلتي..لذلك اوظف المفردة المحلية كما هي شائعة في مجتمعنا..ويجدر الذكر ان هذه المفردات المحلية شقت طريقها إلى معاجم اللغات الاوروبية وتحديدا الانجليزية والفرنسية منها لتثري بذلك التلاقح الفكري والتثاقف بين الأمم..
من وسط ذلك الجو الفرائحي، المفعم بالشعر والموسيقى والرقصات التقليدية، في النادي الهندي، اعادتني ورقة الشاعر الامريكي-الانجليزي إلى تلك الامسية الثقافية، التي استضاف فيها *النادي الثقافي العماني* الروائي المصري *ثروت أباظة..*
كان للرجل رأيٌ يخالف ما قالت به *اللجنة المشرفة على جائزة نوبل في الأدب* وما قاله الشاعر الامريكي-الانجليزي *تي اس إليوت* و *طاغور الهند العظيم* وآخرون من أساطين الأدب العالمي..
سئل الروائي المصري عن رأيه في أعمال *الطيب صالح* فقال:
إنها موغلة في المحلية ما يجعلها متقوقعة في محليتها، ويتعذر بالتالي خروجُها من إطارها المحلي، بمعنىً آخر هو أدب محلي لا يصلح لغير أهله..!!
وما يعتبره ثروت أباظة أدباً متقوقعا في محليته وصفه الشاعر السوري الكبير *محي الدين اللاذقاني* بقوله:
هل سمعتم عن غناءٍ عذبٍ يربط بين ضفتي النهر بخيط من حرير؟ انا مثلكم لم اسمع من قبل بهذا النوع من غناء الحروف التي تتحول إلى أوتار إلى أن قرأت *مريود* و *ضو البيت* ولكني كنت قبلها وقبل ان اقابل الطيب صالح بعمر مديد أسائل نفسي *ما الذي يربط الطيب بابي الطيب*؟ ولماذا حول هذا المبدع الكبير دربه من *الشعر إلى الرواية*، فطريق تعامله مع المشهد والريشة التي يلون بها الصور والازميل الذي ينحت به اللغة بحرفية صانع حاذق ظواهر تنتمي كلها إلى عالم الشعر، الذي يخفي نفسَه في اعمال هذا الشاعر المتنكر في ثياب الروائيين..
أما صحيفة الغارديان اللندنية واسعة الانتشار فقالت يوم صدور النسخة الانجليزية من رواية موسم الهجرة الى الشمال:
Season of Migration to the North is a rich work of incandenscent lyricism..
وتترجم إلى العربية إلى:
*رواية موسم الهجرة آلى الشمال، عملٌ ابداعيٌّ واسع العطاء، ومتوهجٌ شاعريةً تُغنّى..*
*ماريو برجاس لوسا* Marioo Vargas LIosa الروائي الببروفي الحائز على جائزة نوبل للادب عام ٢٠١٠ عندما قال:
*إن الغيرة تشوش العقل ولا تسمح بالتفكير المتعقل* كان يدرك ان *الغيرة بين* *الادباء أشد ايلاما ووقعا من غيرة البسطاء وانها* *قادرة* *على تدمير كل شيء وقد تقود صاحبها إلى الانتحار..*
ولست بحاجة، بعد ما قاله البيروفي ذو البصيرة النافذة، إلى تفنيد ما قاله ثروت أباظة..!
تحياتي
-الزاكي عبد الحميد أحمد-