عمار العركي : خبر السودانية “سلوى”: يعجز تحليل حرب الكرامة والفداء
▪️ حين يروي التاريخ قصص البطولة، نجد في صفحاته رجالًا صدّوا جحافل الغزاة، ونساءً خضن معارك لم يكن فيها مكان للتردد. لكن حين نبحث عن نموذج يشابه ما فعلته “سلوى حسن عبدالحميد” ، نجد أنفسنا أمام حالة عصيّة على التصنيف، فقد جمعت بين التضحية المطلقة، والشجاعة التي تجاوزت حدود الممكن، والوعي العميق بأن الأوطان لا تُحمى إلا بمن يبذلون أرواحهم دون تردد.
في حرب الكرامة التي يخوضها السودان اليوم، لم تعد البطولة حكرًا على الرجال، ولم يعد الفداء مجرد سرديات تُحكى عن الماضي، بل صار واقعًا تعيشه الأمة يوميًا، وتصوغه شخصيات عظيمة بدمائها وأفعالها. ” سلوى حسن عبدالحميد” لم تكن استثناءً، بل تجسيدًا حيًا لمبدأ أن الأرض لا يحميها إلا من يهبون أنفسهم لها دون حسابات.
▪️منذ فجر التاريخ، كانت هناك نساء وقفن في الصفوف الأولى، حملن السلاح جنبًا إلى جنب مع الرجال، ولم يكتفين بأن يكنَّ مجرد داعمات من الخلف. لعلنا نذكر “الخنساء” التي دفعت بأبنائها الأربعة إلى القتال في معركة القادسية، وحين بلغها نبأ استشهادهم قالت: “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيله.” لكن سلوى حسن عبدالحميد لم تكتفِ بأن تدفع بزوجها وأبنائها إلى المعركة، بل لحقت بهم، في خطوة تكسر كل التصورات التقليدية عن الفداء..
▪️ وفي العصر الحديث، لا يمكن تجاهل “جميلة بوحيرد”، المناضلة الجزائرية التي لم تكتفِ بالمشاركة السياسية أو التعبئة المعنوية، بل انخرطت في العمل الفدائي المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، لتصبح رمزًا للمقاومة النسائية في القرن العشرين. وكذلك ليلى خالد، التي اختارت طريق الكفاح المسلح في القضية الفلسطينية، مجسدةً نموذج المرأة التي لا ترى دورها أقل من دور الرجل في المعركة المصيرية.
▪️لكن رغم كل هذه النماذج، تبقى “سلوى حسن عبدالحميد” حالة فريدة، لأنها لم تكن منتمية إلى تنظيم سياسي أو حركة تحررية، ولم يكن فعلها نتيجة تعبئة فكرية أو ثورية مسبقة، بل كان اختيارًا فرديًا نابضًا بالفطرة الوطنية الخالصة. قرارها لم يكن تحت ضغط جماعة، ولم يكن مدفوعًا بأيديولوجيا محددة، بل كان قناعة ذاتية بأن المعركة التي يخوضها الوطن هي معركتها الشخصية، وأن الفداء لا يعرف تمييزًا بين رجل وامرأة حين يكون النداء بحجم الأرض والعقيدة.
▪️إن حرب الكرامة التي يخوضها السودان لم تعد مجرد معركة عسكرية، بل أصبحت اختبارًا للوعي والإرادة، وفرزًا لمن يقفون حقًا في صف الوطن، ومن يكتفون بالمشاهدة والتردد. ” سلوى حسن عبدالحميد” لم تنتظر أن يُطلب منها الموقف، ولم تتساءل إن كان لها مكان بين المقاتلين، بل جعلت من نفسها شاهدًا حيًا على أن البطولة لا تعترف بالتصنيفات الجاهزة، بل تصنعها الأفعال وحدها.
كيف يمكن للتاريخ أن يصف امرأة كهذه؟ كيف يمكن للتحليل السياسي أو العسكري أن يستوعب فعلاً بهذه القوة؟ إنها لحظة يتوقف عندها العقل، وتتراجع فيها كل التفسيرات التقليدية، أمام حقيقة واحدة: نحن أمام نموذج غير مسبوق في التاريخ القريب، حيث تجاوزت المرأة دور الدعم إلى موقع المبادرة الكاملة، لا كاستثناء، بل كقاعدة جديدة تُعيد تعريف بطولة الكزامة في زمن الحرب.
▪️خلاصة القول ومنتهاه:
▪️في هذه اللحظة، أجد نفسي مضطرًا لتوجيه اعتذاري الصادق لعدد من متابعيني الذين يقرؤون ما نكتب، ويسمعون ما نقول من تنظير وتحليل للأحداث، والذين أرسلوا لي هذا المقطع مع طلب تحليله وتقييمه نظريًا. وأقول لهم بصدق: أنا أقل قامة وقدرة على التحليل والتعبير والتنظير أمام فعل “سلوى حسن عبدالحميد”، التي جعلتني وقلمي في موضع يكتنفه الحرج والحياء.
▪️ففي حرب الكرامة هذه، هناك أفعال تكتب نفسها في التاريخ دون الحاجة إلى تعليق، وهناك نماذج تجعل الكلمات قاصرة، والمواقف المسبقة بلا قيمة. أمام هذا الفداء، لا يسعني إلا أن أقف متأملًا، مستشعرًا ضآلة الحروف وعجز الكلمات، لأن هناك مواقف تتجاوز التحليل، وتختصر كل المعاني في فعل واحد، لا يفسَّر، بل يُحنى له الرأس احترامًا.