عثمان جلال يكتب/ بين الترابي وعبد الخالق محجوب

(1)
تركزت سياسة الاستعمار البريطاني في السودان بعد سقوط الثورة المهدية عام 1899، على عدم انبعاث مهدية جديدة، وقربت العلماء ورجال الدين، وشيدت بريطانيا المؤسسات الدينية الموالية لها (لجنة العلماء ، المحاكم الشرعية). ثم استعانت بالرموز الطائفية لحشد التأييد للحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914 إلى1918) ، واغدقت على الزعامات الطائفية والاهلية الأموال والنياشين وتوجت تلك العلاقة بسفر الولاء عام 1919 وتهنئة ملك بريطانيا جورج الخامس بالانتصار على تركيا مركز الخلافة الاسلامية، وقدم زعيم الانصار السيد عبد الرحمن المهدي سيف النصر هدية لملك بريطانيا رمزية للخضوع والولاء، ورده إليه الملك قائلا(احمي به مصالح الإمبراطورية في بلادكم).
(2)
رغم الحلف المقدس بين البرجوازية الطائفية والاستعمار، نمت الحركة الوطنية وسط المثقفين وتجلت في جمعية الاتحاد السوداني 1920، وجمعية اللواء الأبيض التي فجرت ثورة 1924 والتي وصفها محمد المكي إبراهيم بأنها كانت وثبة حملت في أحشائها عنصر المباغتة والطفرة وعدم الاكتمال، وشيعها التحالف البرجوازي الديني والطائفي المصانع للاستعمار باللعنات والاغتيال المعنوي، وتاه ثوار 1924 بين الحيرة والسجن والتهويمات الفكرية .
والبعض ما إن فتح المستعمر أمامهم الفرص حتى تهافتوا وراء المكاسب الشخصية بعد ان ألقت باللائمة على الجماهير. ونزعت الى اختزال الطريق إلى السلطة بالتحالف مع الزعامات الطائفية وتقهقروا عن مراكز الريادة الفكرية وصناعة التاريخ وما أن تحركت الطائفية إلى منتصف الطريق حتى فروا إليها معانقين وارتموا في احضانها ونتجت التسوية التاريخية التي اقحمت الطائفية في السياسة فمنحت الطائفية برجوازي الحركة الوطنية العمق الجماهيري والمال،وهم رفدوها بالفكر والوعي السياسي وتلاشى تيار المثقفين، وآلت للطائفية سدانة الفكر والسياسة والمال والولاء الأعمى من الاتباع، فبئست صفقة البادي.
(3)
تفرد الزعيمان الترابي وعبد الخالق محجوب بتأسيسهما جماعة فكرية وسياسية بعيدة عن الولاءات الطائفية، وسعيا لبناء أحزاب تزواج بين الحداثة والأصالة السودانية فحملت أحزابهما ملامح السودانوية بعيدا عن السلفية المحافظة التي ترى أن النظرية كلية الصحة ومطلقة الحقيقة. وسعيا إلى تنزيل الافكار من الصفوية إلى الجماهيرية بعد صراعات داخلية وخارجية منها صراع عبد الخالق محجوب مع عبد الوهاب زين العابدين وعوض عبد الرازق حيث تجلت رؤيتهما على بناء النسق الماركسي الجماعات الاتحادية والطبقة الوسطى وارجاء تشكيل الحزب الشيوعي، بينما تركزت رؤية عبد الخالق على تلاحم الحزب الشيوعي وسط الحركة الجماهيرية،فقال في صرامة فكرية(إن كل صراع داخل حزبنا ما هو إلا انعكاس للصراع الطبقي خارجه، وان الحزب في حرب المصالح الغريبة عن مصلحة الطبقة العاملة الا يجتث جذور أفكارها فحسب بل ظلال تلك الافكار).
(4)
تصدى الدكتور الترابي بالفكر والوعي للطليعة التي ارتأت اختزال الحركة الإسلامية في جماعة تربوية دعوية تمارس الجدال الفقهي والفكري، وشيد حركة نضج فكرها ووعيها السياسي بذوبانها في المجتمع كذوبان الصوفي في العبادة وقد اجتهد الزعيمان الترابي وعبد الخالق محجوب على التزام المسار الديمقراطي الصبور والدؤوب لنيل ثقة الجماهير ومشروعية الحكم فكل التراث الذي وثق للفترة من العام 1965 إلى العام 1971 حيث شهدت هذه الحقبة الأحداث الجسام في تاريخ الحزب الشيوعي (حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، مؤتمر الماركسية وقضايا الثورة السودانية قضايا ما بعد المؤتمر، انقلاب مايو 1969،انقلاب هاشم العطا 1971،اعدام عبد الخالق محجوب ) في كل هذه المواقف تمترس المرحوم عبد الخالق حول الخيار الديمقراطي في التعاطي مع الأزمات الفكرية والسياسية، ووصف خيار الانقلاب بأنها أدوات البرجوازية الصغيرة التي تتأفف عن العمل الصبور وسط الجماهير، بل كانت آخر كلماته قبل الصعود لمشنقة الإعدام (قدمت الوعي بقدر ما استطعت) وهكذا كانت الشواهد المبذولة في دفاتر التحري التاريخي عن عمق قناعة الرجل بالديمقراطية.
(5)
اكتسب الدكتور الترابي رمزية أيقونة ثورة أكتوبر 1964 بتشخيصه العميق لأزمة الجنوب حيث قال (إن المحنة ليست محنة الجنوب وحده، بل محنة الشمال والجنوب فقدان الحرية والديمقراطية والنظام الدستوري)، وعندما سأله الصحفي أثناء زيارته لبيروت عقب ثورة أكتوبر ماذا ستفعلون لو انقلب الجيش على النظام الديمقراطي؟ قال: سنعود مرة أخرى لحشد المجتمع لإسقاط الانقلاب بالثورة، وجوهر رؤية زعيم الاسلاميبن في الحكم مؤسسة على تمكين قوامة المجتمع في الحكم والثقافة والاقتصاد والنهضة والحضارة، لذلك يقال ان الترابي كان ضد خيار إدارة الأزمة السياسية التي برزت بعد إقصاء الجبهة الإسلامية من حكومة الوفاق الوطني في مارس 1989م بخيار الانقلاب بل دفع دفعا لهذا الخيار الذي استبطن في بعده الاستراتيجي إقصاء الدكتور الترابي وإختزال مشروع الحركة الإسلامية سلطة الفرد.
(6)
تميزت العلاقة التاريخية بين حركة الإسلام والحزب الشيوعي بالصدام والمنازلة ولكن حدث بينهما تقارب إبان ثورة أكتوبر 1964،وكذلك بعد انتفاء العلاقة بين النميري والشيوعيين حيث تلاحم الشيوعيين مع الإسلاميين في ثورة شعبان 1973.
من المفارقات ان العلاقة بين الإسلاميين والشيوعيين بلغت مداها من القطيعة، ومداها من التحالف في تجربة التجمع الوطني بعد خروج تيار المؤتمر الشعبي من الحكم ، وهي المرحلة التي تحررا فيها من الحمولات الايديولوجية الحادة وتفاعلا مع قضايا البناء الوطني والتحول الديمقراطي.
إن الصدام التاريخي بين المدرستين، ونزوعهما لاستلام السلطة عبر الانقلابات العسكرية مايو 1969، يوليو 1971، يونيو 1989) أدى الى تعطل المشروع الوطني الديمقراطي ، وتشظي المدرستان . ولكن كلما تلاقت المدرستان في لحظة تاريخية وطنية ساهمتا بفاعلية في صناعة التغيير الوطني.
(٧)
إن من كمال النضج الفكري والسياسي والحكمة الوطنية استكناه عقلاء الحزب الشيوعي والتيار الإسلامي الوطني العبر والاعتبار وإدراك ان التحالف بين المدرستين ونبذ الخندقة الإيديولوجية يشكل البداية الواثقة لبناء الكتلة التاريخية الحرجة التي تضم حركات الكفاح المسلح وكل القوى السياسية المساندة للجيش في معركة الكرامة على ان تكون المهام الاستراتيجية لهذه الكتلة الوطنية هزيمة مشروع دولة الامارات ومليشيا آل دقلو الذي يهدف الى تشييد نظام ملكي يقوده المجرم حميدتي ، ويدين بالولاء والتبعية للمشروع الصهيوني في المنطقة، وصيانة الدولة السودانية من خطر التفكك وصراع الهويات القاتلة ثم التوافق على العقد الاجتماعي الذي يؤسس للنظام الديمقراطي التوافقي والمستدام.

الجمعة: 2025/1/3

مقالات ذات صلة