أسباب تغيير العملة .. بقلم / د. عبد الرحمن محمد ضرار
كما هو معلوم فى تاريخ الفكر الإقتصادى فقد بدأ الإنسان حياة إنعزالية ثم إنتقل الى مرحلة المقايضة للإستفادة من فائض الإنتاج والصعوبات التى واجهت نظام المقايضة وتطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية انتقل الى إستخدام النقود المعدنية كوسيلة لتبادل السلع والخدمات ومعيار تقييم السلع والخدمات يعتبر الإنتقال من العملات المعدنية الى الورقية فى العصور الوسطى علامة بارزة أرسى أساس للانظمة المالية والمصرفية الحديثة والعملات هى الركائز الداعمة للتجارة الدولية والمعاملات المالية الخارجية والداخلية. إذ أن العملة هى أداة إقتصادية وإجتماعية هامة عرفها الإنسان قديماً وورد ذلك فى الآية الكريمة ( إبعثوا أحدكم بورقكم ……..) والمقصود بورقكم العملة المعدنية وبها سيتحصلون على الطعام وتطورت ظاهرة النقود من سلعية الى معدنية الى ورقية الى إفتراضية.
فى عالم اليوم لكل دولة عملة رسمية لأغراض الدفع والسداد فى العمليات التجارية والمالية ويتم تنظيم طباعتها وإصدارها بواسطة البنوك المركزية بهدف تأمين الكتلة النقدية اللازمة لعمليات التدفق النقدى الداخلى والخارجى للاسواق وتحركاتها التجارية المختلفة.
هذه العملات غير ثابتة فمعظم الدول تقوم بتغيير عملاتها من فترة الى أخرى ومن ابرز الدول التى اضطرت الى تغيير العملة الهند – فنزويلا – تركيا – الأرجنتين – البرازيل – استراليا – وعربياً السعودية – المغرب – السودان ومن الضرورى الإشارة الى أن إستقرار العملة مؤشر لإستقرار الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية ومن هنا يتم تغيير العملة للأسباب التى ذكرت وهناك ايضاً اسباب أخرى وفيما يلى نجمل أسباب تغيير الدول للعملة :-
1- إرتفاع معدل التضخم كما حدث ذلك فى فنزويلا ففى أوقات التضخم يعبر عن أسعار المنتجات والخدمات باعداد أكبر ربما يعيق المعاملات اليومية بسبب مخاطر الحمل والحفظ أو الضغط على الأنظمة مثل آلات الصراف الآلى هذا بجانب الحالة النفسية لجمهور المتعاملين بالعملة دفعاً واستلاماً فالجانب النفسى أيضاً مهم إذ لابد من أن تكون العملة مقبولة لدى المتعاملين بها ولايتم التخلص منها وربما تفقد العملة وظائفها الأساسية كوسيلة للتبادل ومعيار للقيم ومستودع للقيمة وفى ظل التضخم تتم المعالجة عن طريق وحدة جديدة تحل محل الوحدات القديمة وبعدد ثابت من الوحدات القديمة ليتم تحويلها الى وحدة واحدة جديدة.
2- تدهور قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الخارجية الأخرى وهذا كان سبباً لتغيير العملة فى تركيا العام 2005م عندما بلغ سعر الدولار (1,450,000) ليرا.
3- إرتفاع حجم الاقتصاد غير الرسمى وحجم الاموال المتداولة فى الاقتصاد غير الرسمى مما يشجع الانشطة الهامشية على حساب الأنشطة الحقيقية حيث يهدف تغيير العملة الى إستقطاب الأموال المتداولة خارج القنوات الرسمية.
4- إنتشار تزوير العملة ورواج سوق الأموال السوداء.
5- إرتفاع معدلات تهريب أموال الدولة الى دول أخرى , تحدث الحالات (4) و (5) فى حالة الحروب والإضطرابات الأمنية وإنتشار الفوضى.
6- إفلاس الدولة وعدم قدرتها على سداد إلتزاماتها.
7- أحداث وتطورات مهمة تشهدها الدولة فمثلاً بعد محاولة إنقلاب 15 يوليو 2016 أصدرت السلطات التركية نسخاً معدنية جديدة من عملة الليرة التركية تحمل صوراً ورموزاً جديدة تكريماً للقتلى والجرحى الذين سقطوا أثناء محاولة الإنقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركى وفى السودان غير الإمام المهدى العملة التركية عند تحرير الخرطوم عام 1885م لأن العملة تمثل رمز السيادة الوطنية والأمثلة كثيرة.
8- رغبة الدولة بتطوير نظام تأمين للعملات الخاصة بها وذلك لإضافة أحدث معايير الحماية والأمن لمستخدمى ومالكى الأوراق النقدية عن طريق جعل تزوير هذه العملات صعبة وتكون العملة الجديدة مميزة فى نوعيتها وتصميمها.
تلك هى الأسباب الرئيسية لتغيير الدول للعملة وقبل الإشارة الى شروط نجاح التغيير وتحقيق عملية التغيير لأهدافها نستعرض الأوضاع فى السودان لنرى ضرورة التغيير من عدمها.
عرف السودان العملة فى مرحلة مبكرة من تاريخه ووجدت عملات يونانية ورومانية فى أنحاء متفرقة من السودان غير أن تاريخ العملات الورقية يعود الى فترة الحكم الثنائى و إن كان السودان قد عرف جنيه الذهب المعدنى فى عهد المهدية خلال القرن التاسع عشر كما أستخدمت العملات الأجنبية مثل الريال التركى والنمساوى مع عملة محلية محدودة فى عهد السلطنة الزرقاء( 1504م – 1821م).
فى فترة الحكم الثنائى (1889م – 1955م) سادت العملة المصرية إذ صدر قانون تنظيم العملة لعام 1924م وبموجبه سمح بإستخدام كل العملة المصرية فى السودان و أعتبرت كل الأوراق النقدية فى السودان مغطاة بأرصدة النقد الأجنبى الموجودة لدى البنك الأهلى المصرى , فى 15/09/1956م تم إصدار أول عملة ورقية سودانية لتحل محل العملات المصرية والإنجليزية المتداولة حيث صدرت عملات فى مختلف الفئات تبدأ بفئة العشرة جنيهات وبعد ذلك بأربع سنوات تم إنشاء بنك السودان المركزى حيث آلت إليه كل أصول لجنة العملة ليتولى البنك المركزى تنظيم إصدار العملات ويشرف على كل التغيرات التى تمت للعملة من بعد ذلك.اذاً السودان عرف العملة وتعامل معها من قبل الميلاد بل أصبحت جزء من المعتقدات الشعبية , إذ إستخدم السودانيون النقود للتفاخر ولمنع العين والحسد فى مناسبة الختان أو الزواج حيث توضع النقود على جبهة العريس أو ( ولد الطهور) لمنع العين أو الحيلولة دون وقوع مكروه واستخدمت الجنيه الإنجليزى الذى يحمل صورة الملك جورج الخامس كمشاهرة أو وقاية للنساء حديثات الولادة أو الزواج, هذه الإشارات لنؤكد أن تاريخ العملة الإقتصادى والاجتماعى فى السودان قديم ولذلك مرت تجارب تغيير العملة فى السودان دون مشاكل تذكر بيد أن تحقيق عمليات التغيير لأهدافها يمكن ا نختلف عليها .
إذا رجعنا لأسباب تغيير العملة فى الدول نجد أن معظمها متوافرة الأن فى السودان فالإقتصاد السودانى يشهد معدلات تضخم عالية غير مسبوقة وتدهورت قيمة العملة الوطنية الى أدنى مستوى لها فى تاريخ السودان والأموال المتداولة خارج القنوات الرسمية كبيرة وتم تهريب الأموال الى خارج السودان وإنتشرت العملات المزورة ومن الأسباب الرئيسية للتغيير الظروف التى خلفتها الحرب اللعينة و الإعتداء على أموال البنوك والمؤسسات والأفراد بل تأخرت عملية التغيير كثيراً ربما لظروف مرتبطة بترتيب الأولويات و لتحقيق الأهداف الإقتصادية والإجتماعية من تغيير العملة لابد من الآتى :-
1- تطبيق إصلاحات إقتصادية واسعة تمس القطاعات الإنتاجية لأن مشكلة الإقتصاد السودانى هيكلية إذ أن أطول فترة إستقرار يشهدها الإقتصاد السودانى فى تاريخه هى ما بين ( 1999م – 2011م) لدخول النفط فى هيكل الإقتصاد.
2- الإصلاح الضريبى والجمركى وتحسين فاعليتهما.
3- إصلاح الجهاز المصرفى الذى تعرض لأكبر عملية نهب للأموال والإصول وتدمير البنية التحتية ولولا صلابة عوده وتراص بنيانه لإنهار سقفه وتهدم بنيانه.
4- هذه فرصة لإصلاح نقدى شامل ومراجعة التركيبة الفئوية للعملة.
5- إضافة أحدث معايير الحماية والأمن لجعل تزوير العملة صعبة خاصة وأن عملية تغيير العملة مكلفة.
6- حملة إعلامية نوعية مكثفة تشرح للجمهور أهمية تغيير العملة وأهدافها وربط الحملة بالقيم الوطنية.
7- الإستفادة من تجارب السودان السابقة فى تغيير العملة لتجاوز السلبيات وتعزيز الإيجابيات.
8- عملية التغيير تتم هذه المرة فى ظروف أمنية وإقتصادية وسياسية بالغة التعقيد فلابد من الترتيب الجيد فالأموال المتداولة خارج القنوات الرسمية كبيرة وكذلك حجم الأموال المزورة كبير ونسبة فروع المصارف العاملة ضعيفة بجانب توقف بعض الخدمات المصرفية وضعف البنية التحتية وغيرها من المشاكل التى تحتاج الى ترتيب وتنسيق بين الأجهزة المعنية من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
9- على المصارف الإستعداد الجيد من حيث تدريب ونوعية العاملين وتطبيق منشورات بنك السودان المركزى الخاصة بالتزوير وتوفير أجهزة كشف تزوير العملات المحلية وكذلك معرفة العملاء (KYC) ومصادر الأموال ونتوقع أن يقوم البنك المركزى بتعزيز هذا الجانب وتقديم المساعدات اللازمة للمصارف.
د. عبد الرحمن محمد ضرار
بورتسودان فى 20/11/2024م