كلما جاء الشتاء .. بقلم شذى شيخ محمد

كان يقف علي ذاك التل الرملي بقامته الممشوقة وبزته العسكرية التي اضفت عليه قوة وهيبة ؛نظرت اليه والدموع علي خديها…اما زلت مصرا على موقفك؟

اومأ براسه ايجابا ولم يتحدث .نظرت اليه نظره عميقة فهم مغزاها فقال: نعم …انه وطني هل تعرفين معنى وطني ؟فردت: نعم اعرف كما اعرفك ايضا . نعم هي تعرفه جيدا وكل شي يهون لاجل وطنه. قالت دون ان تشعر: وانا..انا الم تفكر بي ؟ حمل حقيبته من جانبه وتحرك بخطواته القوية دون ان يلتفت اليها فقالت بصوت يشوبه الحزن : يالك من قاسي ! وقعت عليه هذه الكلمة كالقنبلة فاستدار اليها راجعا …. انا ؟ اتقولين مثل هذا الكلام لي ؟ انا يا أمل؟ إذًا ماذا اقول لك؟ انها المره الخامسه التي تذهب فيها الى القتال .نظر اليها طويلا …وحدث نفسه في صمت … اه لو تعرفين ما افكر فيه، ليتك احسست بما احس به ،ماذا افعل … انني احبك جدا كما احب وطني .. لايمكنني ان ابقى هنا وانا اراه يتمزق، كيف يمكنني ذلك؟ هل اترك بلدي للعدو ؟؟ صرخ باعلى صوته لا..لايمكنني ذلك، فالموت اهون.نظرت اليه بدهشة والدموع على خديها : ما الذي لا يمكن ؟ مسح دموعها واحتواها بذراعه قائلا : لقد عهدتك قوية مصابرة ,لقد كنتي تشجعينني وتحثينني على اداء واجبي …ماذا جرى لك هذه المرة؟ رمقته بنظرة ولم تقل شيئا فهي نفسها لا تدري ما الذي جري لها هذه المرة…لا تدري لماذا انقبض قلبها عندما اخبرها بانه سيذهب للقتال؟
-هل تقبلين ان يكون زوجك متخاذلا؟؟
رفعت راسها اليه قائلة :لا و الله لا يرضيني ..لعمرك لم ولن تكن كذلك ..اذهب والله معك.نظر اليها نظرة امتزجت بالحزن والفرح ،حزن لا يعرف مصدره .حمل ابنه وضمه اليه بشدة واعاده اليها :- ارع إبننا جيداً كما عهدتك . قالت والدموع تغالبها: كن مطمئناً ولا تحمل هماً وكن حريصاً على نفسك. ودعها بسرعة فهو لا يستطيع احتمال دموعها الحارة وتحرك محاولاً إخفاء الحزن العميق الذي ارتسم على وجهه، أما هي فقد تسمرت في مكانها تنظر اليه حتى غاب عن ناظريها.. حملت ابنها ودخلت إلى المنزل والذي بدا لها كئيباً خالياً.. مرت الايام والشهور كانت تتابع أخباره اولاً باول وتعد الايام والليالي.. سمعت باشتباكات عنيفة بين الطرفين كما سمعت بانسحاب قوات العدو إلى خارج الحدود بعد معارك حامية الوطيس خلفت قتلى وشهداء. كما سمعت بنبأ توقف القتال بعد إنتصار جيش وطنها. الآن توقف القتال، ترى متى سيعود؟؟ كاد قلبها يطير من بين ضلوعها عندما توقفت سيارة الجيش امام منزلها … اتراه عاد؟ حملت ابنها الذي لم يتجاوز العامين من عمره وجرت نحو الباب.. لعله ابوك بني.
فتحت الباب بلهفه … ولكن … حزن عميق قراته في وجوه أولئك الجنود. قال احدهم وهو يغالب حزنه : – لا أدري كيف أسوق اليك النبأ ان … لم تكن تحتاج ان يوضح لها أكثر فقد عرفت ان زوجها قد استشهد.
دارت بها الدنيا واسودت امام عينيها لم تحس بشئ سوى برد الشتاء القارس القاسي وتخبطت في كل الاتجاهات ضمت ابنها اليها بشدة وانخرطت في بكاء حار حزين. حاول الجنود تهدئتها لكنها لم تكن تسمع شيئا سوى صوت رياح الشتاء الهوجاء. نظرت باتجاه الشمس التي بدت والشفق يحيط بها كدموعها الحمراء التي تسيل من عينيها. غابت الشمس .. وفي تلك الليلة لم يرسل القمر ضوءه لينعكس على الرمال ولم تسطع النجوم ولم تبد السماء سوى قطعة سوداء يخيم عليها الحزن.
ضمت ابنها بشدة وانخرطت في البكاء من جديد. اه من هذا الشتاء القاسي اه لهذي الرياح الهوجاء. مرت سنوات والحزن لا يكاد يفارقها شهر وراء شهر وفصل وراء فصل وكان كلما جاء الشتاء تسود ايامها وتظلم الدنيا امام عينيها، ويزداد حزنها آه لهذا الشتاء … اه لتلك الرياح الهوجاء التي ساقت لي ذاك النبأ المشئوم.
في يوم قال لها إبنها :-
أمي اريد ان اسالك سؤال مر بخاطري مرات عديدة .. ما سر هذا الحزن الذي ينتابك كلما جاء الشتاء؟ … ارجوك امي تكلمي لقد لاحظت ذلك مراراً وانا لم اعد صغيراً .. ارجوك امي تكلمي.
صمتت كثيراً واخذت نفساً طويلاً، واخذت تحكي له عن ابيه وكيف كان جندياً باسلاً يحب وطنه بشدة ويتفانى في خدمته وكم كان طيباً ورؤفاً كان لايتاخر لحظة كلما احتاج اليه وطنه.. وكم من المرات ذهب فيها الى القتال لقد كنت صغيراً بني عندما استشهد ابوك لا يمكنني ان انسى ذاك اليوم المشؤم الذي جاءني فيه خبر استشهاده لقد كان هذا اليوم في الشتاء يوم ان ساقت لي رياحه الهوجاء ذاك النبأ لقد مات ابوك في الشتاء فكيف لا احزن فيه؟ كيف لا أبغضه ورياحه الهوجاء؟
والآن بني هل عرفت لماذا ابغض الشتاء ورياحه الهوجاء أعرفت بني..؟
ولكن إبنها لم يكن قد سمعها فقد كان مشغولاً بأداء التحيه العسكرية لصورة والده التي على الجدران.
نظرت اليه بعين تشع بالفرح والامل.. ووضعت يدها على كتفه وشدت عليه قائلة: عندها فقط ستعيد لي بسمتي عندها فقط ستشرق شمسي التي غابت منذ ان غاب ابوك.

مقالات ذات صلة