أزمة الدولة السودانية الحديثة و الجيوش الغير نظامية .. بقلم / ياسر مكي
تكوين المليشيات والإستعانة بها هي ظاهرة أصيلة في التراث والثقافة السياسية والأمنية للدولة السودانية الحديثة، حكم السودان على الدوام كان مرتبط بتكوين المليشيات.
فهذه المشكلة او المعضلة عبارة عن ظاهرة تاريخية تم صنعها وإستحداثها مع إستحداث الإنجليز للقطر السوداني، فالتراب السوداني في عهد الحكم الثنائي الإنجليزي المصري كان خاضع عسكرياً وأمنياً و تحت سيطرة جيش هجين مكون من جنود سودانيين تحت قيادة ضباط إنجليز و مصريين، كان هذا في الفتره الممتدة من سنة 1898 وحتى عام 1924 وهو تاريخ تأسيس قوات دفاع السودان التي تعتبر نواة الجيش السوداني الحالي.
إستحداث قوات دفاع السودان تم نتيجة لخطة مدروسة و بعيدة المدى تم التخطيط لها بواسطة الإنجليز لفصل السودان عن مصر، فطوال فترة الحكم الثنائي كان الإنجليز يبحثون عن الأسباب التي تقودهم لتنفيذ مخططهم لإبعاد الجيش المصري والإنفراد بالسودان، و طبعاً السؤال الطبيعي لماذا يسعى الإنجليز خلف هذا المخطط؟! وقد تطول الإجابة على السؤال، لكن السبب الرئيسي هو إضعاف مصر بعزلها وفصلها عن عمقها الحيوي والإستراتيجي، خصوصاً انها كانت ستصبح القوى الأكبر والوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية في المنطقة والعالم الإسلامي، فقد كانت مصر مؤهلة لأخذ مكان الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحتضر وكان تُسميها القوى الغربية الرجل المريض، المهم تم للإنجليز الأمر و وجدوا ضالتهم و السبب لتنفيذ المخطط بعد حادثة إغتيال الضابط الإنجليزي السير لي ستاك حاكم عموم السودان والذي حدث إغتياله في مصر عام 1924، فإندعلت أزمة دوبلماسية بين الشريكين في حكم السودان انتهت بخروج الجيش المصري من السودان وإنفراد الإنجليز بجنوب وادي النيل.
بعد إبعاد الجيش المصري أسس الإنجليز قوات دفاع السودان، و قد تم تأسيسها في وسط السودان على أراضي نهر النيل في منطقة الخرطوم حاضرة القطر الحديث، وتعود أهمية وسط السودان للإنجليز لأنها تعتبر المنطقة الرئيسية والحيوية التي يستفيد منها الإنجليز إقتصادياً بزراعة القطن في مشروع الجزيرة وفي دلتا طوكر شرق السودان، أما غرب السودان فلا جدوى إقتصادية مستفادة من ذلك الإقليم، لأن الصناعة الإنجليزية في تلك الفترة كانت قائمة أساسا على الصناعات القطنية، و القطن لايمكن زراعته في غرب السودان.
لكن رغماً عن ذلك فقد كان الإنجليز مدركين لأهمية إخضاع إقليم دارفور لنفوذهم، فالإقليم جزء مهم من المجال الحيوي والإستراتيجي الأمني للسياسة الإستعمارية والتوسعية للإنجليز في أفريقيا، فدارفور تعتبر حاجز و مانع (buffer zone) يمنع تمدد الفرنسيين الذين يُخضعون وسط أفريقيا وبعض من غربها، فيما يعرف بالحزام الفرانكفوني الذي ينتهي شرقاً في دارفور، وطبعا من المعروف حجم الصراع التاريخي بين الإنجليز والفرنسين في الداخل الأوروبي وخارجه.
إذن بريطانيا أصبحت أمام معضلة فيما يخص دارفور، ما بين أهمية السيطرة عليها لتحقيق الأمن الإستراتيجي والإستعماري للإنجليز، و مابين الكُلفة الإقتصادية العالية إذا تعمقوا بقواتهم في الإقليم، فلذلك قرر الإنجليز الذهاب لحل وسط لحل المعضلة، وذلك بأن يضعوا دارفور تحت الحكم الذاتي، فجلب الإنجليز السلطان علي دينار الذي ينتمي الى سلالة حكام سلطنة دارفور، وتم تقليده به كسلطان شرعي على دارفور بشرط ان تكون السيادة لبريطانيا العظمى، فأصبح حال الحكم بدارفور أشبه بالحكم الكنفدرالي تحت سيادة التاج البريطاني، و استمر الحال والوضع كذلك حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، اللتي كان العثمانيين فيها الطرف الثاني في مواجهة الإنجليز، وطبعاً بحكم رابطة الدين الإسلامي المشترك الذي يعتنقه العثمانيون وأهل دارفور، فهذا وضع السلطان علي دينار في حرج، فكان لابد له ان يتخذ موقف من الإنجليز والحرب، وذلك بأن يدعم العثمانيين وينحاز لهم، فبدأ تململ علي دينار من الإنجليز، وهنا جرد البريطانيون حملة على دارفور وأسقطوا علي دينار، وفي هذه الحملة استعان الإنجليز بقبائل سودانية بعينها لهزيمة علي دينار، وبعد مقتل علي دينار تم ضم دارفور الى السودان بصورة رسمية في 1916، إذن دارفور حتى هذا العام، كانت تخضع الى جيش السلطنة، وبعد السقوط أصبحت خاضعة للجيش البريطاني المصري الهجين.
نعود إلى حادثة إغتيال السير لي ستاك في 1924، فبعد انت تم طرد المصريين من السودان، تم تأسيس قوات دفاع السودان من السودانيين الذين كانوا جزءاً من الجيش الإنجليزي المصري الهجين، وطبعا تم جلبهم الى وسط السودان لسد الفراغ الأمني الذي خلفه خروج الضباط والجنود المصريين من السودان، و بسبب جغرافيا السودان الممتدة والمعقدة وصعوبة الحركة والتكلفة الإقتصادية العالية، قرر البريطانيين ان يسدوا الفراغ الأمني في دارفور بإنشاء مليشيات لقمع الثورات المندلعة ضدهم في الإقليم، فإستعانوا مرة أخرى بقبائل بعينها منهم قبيلة الكبابيش وتم تسليحهم ودعهم، و بالتأكيد لم يطلقوا تسمية مليشيا على تلك القوات، لكن كان يشار الى انها جيوش غير نظامية، أما كلمة “مليشيا” فتعتبر كلمة حديثة نوعاً ما في القاموس و الثقافة السياسية السودانية لذلك فهي تحمل الكثير من اللغط.
المهم استمر الحال كذلك حتى الإنفصال الرسمي للسودان عن مصر او مايعرف محلياً بإستقلال السودان، الذي شهد معه إندلاع حرب الجنوب الأولى ضد قوات الأنانيا الثورية، وبعد الإنقلاب الأول بقيادة عبود في 1958، ونظراً لأن النواة الرئيسية لحركة الأنانيا كانت من قبيلة الدينكا، و لمواجهتم فقد قام عبود بتسليح القبائل الجنوبية الأخرى مثل الشلك والنوير و أطلق إسم “قوات حفظ السلام” على تلك القوات.
اما النميري فقد استمر على نفس سياسية عبود بمواجهة الجنوبيين بصورة غير مباشرة حتى وقع اتفاقية اديس ابابا في 1972.
استمر السلام في الجنوب حتى إندلعت الحرب مرة أخرى في الثمانينات، وطبعا المعلومة المضللة التي يتم الترويج ليها ان الحرب إندلعت بسبب قوانين سبتمبر الإسلامية، وقد تكون جزء من المشكلة، لكن السبب الرئيسي كان يعود الى ان النميري قرر تقسيم الجنوب لوحدات ادارية فدرالية أصغر، وهو عكس ما كان متفق عليه في سلام اديس ابابا بأن يكون الجنوب وحدة إدارية واحدة، فإندلعت الحرب مرة أخرى، المهم في فترة السلام الممتدة من اوائل السبعينات وحتى الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الجنوبيين رافضة لإتفاقية أديس ابابا و قاوموا الإتفاقية، عرفت تلك الحركة بأنانيا 2 وكانت نواتها الرئيسية من قبيلة النوير، وعندما إندلعت الحرب مرة أخرى في الجنوب، تحالف النميري مع انانيا 2 ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان، و قام بدعمها وتسليحها و أطلق عليها إسم “القوات الصديقة”.
بعد سقوط النميري وعودة حزبي الأمة والإتحادي للسلطة في الديمقراطية الثالثة في نهاية الثمانينات، ومع إستعار حرب الجنوب، قام الصادق المهدي ومعه وزير دفاعه برمة ناصر بتسليح القبائل العربية ضد الحركة الشعبية، ويعود جزء من أسباب هذا التسليح و القرار لأن القبائل العربية في غرب السودان تعتبر الحاضنة الرئيسية للأنصار وحزب الأمة، فإذا لم تتم تلبية طلبهم بالحماية او التسليح فبذلك سيفقد حزب الأمة القاعدة الإنتخابية و سيكون امام سقوط حتمي في الإنتخابات القادمة، وفعلا تم تسليح بعض القبائل العربية التي عرفت ب”قوات المراحيل”، المهم في نفس تلك الفترة التي تعرف وتسمى بالديمقراطية الثالثة، كان الإسلاميون قد صعدوا للبرلمان و هو العهد الذي فيه تم إقتراح تكوين قوات الدفاع الشعبي لتكون قوات مساندة للجيش.
بعد سقوط حكومة الصادق وصعود الإسلاميين للسطلة إثر التحالف مع الجيش بإنقلاب البشير و بروز نظام الإنقاذ 1989، قامت الإنقاذ بتكوين قوات الدفاع الشعبي، وتم دمج جميع القوات غير النظامية لتكون تحت لواء الدفاع الشعبي، بما فيها قوات المراحيل التي كانت ذات طابع قبلي، وطبعا الإنقاذ إستطاعت دمج القوات القبلية تحت مظلة الدفاع الشعبي لانها كانت قوات مؤسسة على الأيدلوجية الإسلامية، ذلك الذي جعلها تصبح أكثر قومية وأكثر مرونة مثلها مثل الجيش في التنوع والتمثيل لكثير من القبائل السودانية، واحد الأمراء الأساسيين لهذه القوات كان خليل إبراهيم شقيق جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي، وعلى عكس جميع المليشيات السابقة، فهذه اول مليشيا إلتحق بها عدد كبير من الطلاب وخريجين الجامعات “التكنوقراط”، ويعود السبب لهذا لإرتباطها الأيدولجي بالحركة الإسلامية التي تعتبر حركة سياسية حديثة عابرة للقبيلة والقومية عكس ما كان معتاداً و معروفاً عن التراث والثقافة الميليشوية في السودان القائمة على الروابط القبلية الذي سبق الحديث عنه.
إستمر حال قوات الدفاع الشعبي كقوة أساسية غير نظامية “مليشيا” مساندة للجيش حتى حدوث المفاصلة في عام 99 وإنقلاب البشير على الترابي، هنا دخل الدفاع الشعبي في حالة من الصدمة والجمود، وذلك لأن الأزمة الوطنية انعكست على الحركة الإسلامية نفسها، فكثير من المجاهدين انسلخوا من الدفاع الشعبي والحركة الإسلامية وتمردوا على نظام الإنقاذ، أو بالأحرى تمردوا على كامل الدولة السودانية.
جاء الموت الإكلينيكي لقوات الدفاع الشعبي الأيدلوجية بعد اتفاقية سلام نيفاشا بين الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي صاحبها في نفس الفتره إندلاع ازمة دارفور، وبسبب مفاصلة الترابي والإنقاذ وموت الدفاع الشعبي بصورة كبيرة، فقد إتجه البشير للعودة للثقافة والتراث الميليشيوي القديم وذلك بتسليح و بتحشيد القبائل، خصوصا انه فقد جزء كبير من دعم وعون الإسلاميين في خوض حرب دارفور، بل أصبح جزء من الإسلاميين بقيادة خليل إبراهيم هم جزء من الطرف الآخر في الحرب.
لذلك قام البشير بتسليح القبائل العربية مرة أخرى بقيادة موسى هلال ثم من بعده حميدتي، وإستمر تحالف الجيش والجنجويد حتى اندلعت الحرب السودانية الحالية بين القوتين، وحالياً الجيش تتم مساندته بخليط من المليشيات او القوات غير النظامية سمها ما شئت، هذا الخليط منه قوات جهوية وقبلية مثل المشتركة، ومنها الإيدوليجي مثل كتائب البراء.
الخلاصة ان تكوين المليشيات هي ظاهرة أصيلة في الدولة السودانية، نشأت بنشوء الدولة وصاحبتها ولها الكثير من الأسباب التاريخية التي ذكرتها ولها أسباب فنية أخرى لن أخوض في الحديث عنها، لكن على العموم هي لها إرتباطات بأزمة ومفهوم الدولة القومية او الوطنية الحديثة الأوربية النمط التي تم إستيرادها من الخارج.