حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب : عندك “شلوخ” ؟
في احدى مجموعات التواصل الاجتماعي، كتب لي أحد الزملاء الصحفيين (نفهم من المبادرة أن رؤساء التحرير ديل بقوا معانا في “لا للحرب ولا كيف؟”).
و رغم كون الرسالة فيها نكهة خفيفة من المزح تحتملها علاقات الزمالة، إلا أنها من -زاوية أخرى- تكشف حقيقة مهمة يجدر أن تناقش بهدوء..
الملعب السياسي السوداني المعطوب منذ عقود يعاني من علل كثيرة واحدة منها “الوسم” Labeling.
في التاريخ الاجتماعي السوداني ظل أهلنا في الأرياف يستخدمون الوسم للماشية وللإنسان أيضا. يحددون لكل قبيلة وسما بعينه يرسم كيّا بالنار في عنق الماشية أو أي موقع بارز للعيان يكفي لتحديد ملكية الماشية إذا ما اختلطت أو تاهت في السهول أو الفيافي.
و حتى عهود قريبة كان وجه الإنسان نفسه موضعا لهذا الوسم. ترسم كيّا بالنار رموز بعينها على جانب واحد أو جانبين من وجه الإنسان تحدد نسبه القبلي.. مثلا قبيلة الشايقية تستخدم المطارق المتوازية ، خطوط مستقيمة متوازية بينها مسافة قصيرة أشبه بالرقم 111 وعادة تكون عريضة وطويلة باتساع كل من الخدين الأيمن والأيسر.
هذه العلامات البارزة تظل مدى الحياة في الوجه لا يمحوها الزمان ولا حتى عمليات التجميل، بل في وجه النساء تعتبر فخرا و موضعا للجمال والأنوثة رغم التشويه وفظاعة الفعل عندما تجبر البنت الصغيرة على الإذعان لشفرة حادة تسيل الدماء من وجهها الطفولي وهي تصرخ ولا تكاد تفلت من الأيدي القوية التي تمسك بها.
بينما الوشم في جسم الماشية لإثبات الملكية فإنه على خد الإنسان لإثبات التبعية الجينية، وبينهما شعرة لا تكاد تبين.
الوسم ذاته يمتد إلى الملعب السياسي.. ب”الشلوخ” ذاتها.. هل أنت “كوز” أم “قحاتي”؟ الأمر لا يتعلق بفكر سياسي بل محض “شلوخ”تساعد من يراك ليعرف هل يحبك أم يكرهك من أول نظرة.
نعود لتعليق زميلي الصحفي الذي فهم من مبادرة رؤساء التحرير أنهم (بقوا معانا في “لا للحرب”)، ونسأل ما هي “لا للحرب” التي حازها رؤساء التحرير في رأي صديقنا؟
الإجابة الدقيقة هي الوسم، “الشلوخ” التي تسمح بتحديد موقفك من الحرب الراهنة في السودان، و لتُعرف من أول نظرة عن بعد لتحديد هل أنت من الفئة الناجية أم الباغية.
الفرق الوحيد بين هذه “الشلوخ” و شلوخ أمهاتنا وآبائنا الكرام ، أنها شلوخ بالحبر قابلة للإزالة بكل سهولة ووضع أخرى مكانها، فيكفي تغريدة في الوسائط ، أو تعليق عليها ليتغير الوسم “الشلوخ”، فتصبح “بلبوسا” رغم أنفك.
هنا السياسة تتحول إما إلى مزرعة لقطعان الماشية الموسومة ، أو زريبة لقطعان البشر المشلوخة وليس بينهما مشتبهات. ممارسة طقوسية لا ينقصها إلا رقصة الهنود الحمر أو قبائل غابات الأمازون حول النار وهمهماتهم المتوحشة.
لن تستطيع أن تكون مع السلام وتدعمه إلا إذا عمّدك كبير الكهنة ورسم على وجهك شلوخ “لا للحرب”، ولن تستطيع أن تكون محبا لجيش وطنك وداعما له إلا إذا وسمك في جبينك بشلوخ بعلامة البندقية، قديس يتمتم بالرقية و يتفل في يده ويمسح رأسك..
السياسة في بلدي محض تعاويذ وترانيم مقدسة يعلوها بخور يحجب النظر.. لا تحتمل اقتراب العقل منها إلا كما تقترب النار من البنزين.